Atwasat

النسخ المتعددة من الله

نجوى بن شتوان الإثنين 16 مايو 2016, 10:31 صباحا
نجوى بن شتوان

الله الذي عرفته في بيتنا ليس هو الله الذي وجدته في الشارع وعند بعض الجيران بعد ما كبر أولادهم وذهبوا للحج وعادوا أشخاصاً آخرين، أكثر كآبة، قتامة، وتكفيراً، سألت الله الذي في بيتنا مالذي حدث لهم حتى أصبحوا بتلك العدوانية وقد ذهبوا إليك في أعز بيوتك من الأرض، ولم يعطني جواباً، أعرف أن التدين يجعلنا نلتصق بعالم الروح أكثر من عالم المادة، فلماذا حدث لهم العكس حتى أصبحوا حادين أكثر من كفار قريش الذين زاروا أرضهم، وتضخمت نزعتهم لاستعباد الآخرين باسم الله، وتخطئتهم وتشكيكهم في علاقتهم به، لقد عادوا على كل حال معلمين، رغم أنهم هربوا من المدرسة قبل إتمام الشهادة الإعدادية وضربوا المدرس المصري كثيراً وسكبوا على سيارته الأتشدو!.

هل ما غيرهم هناك، هي دموع الغريب التي نزلت كالأتشدو أم غفران الله لهم؟ إذا كان الله الموجود في مكة هو من فعل ذلك فهو حقاً الغريب!.

أما الله الذي عرفته في المدرسة فقد قالوا عنه الأشياء التي يريدونها وبطريقتهم، ومن هناك كانت طريقي إليه مليئة بالتصحر، انطلاقاً من فصل لَمْبَتُه معطوبة حين كتبت اسمه لأول مرة في حياتي، قالوا إنه رحمان رحيم وباسمه يبتديء كل شيء وينتهيء كل شيء، وقالت أمي إن رحمته أوسع من ملكه، حاولت تلقينها ما لقنوني إياه في المدرسة عن المبدي المعيد، إلا أن لمباتها كانت معطوبة عدا واحدة، وقد قست مقولتهم على حجم البلدة التي أسكنها، فوجدت الله محدودا ومتناهيا، وقست مقولتها على حجم الفصل وقررت تصديقها بشكل لا نهائي، فالفصل جزء معتم من كوكب الأرض، حجرة في بيت عربي قديم، بنافذة واحدة وثلاثين طفلاً ونفس المعلمة، يُساقِط سقفُها المطرَ وتعجز ضلفتا بابها عن صد رياح القبلي وحماية وجوههم من التقسف، لكن كوة الضوء الوحيدة فيها تجعل الجميع يعرف قيمة النور.

صرت أبدل القنوات التلفزية التي أجدها تتكلم عنه حتى لا أكرهه بالمزيد لقد كان صناعة خاصة بهم وليس الله الذي خلق اتساع السموات والأرض

وما بين المدرسة والبيت، وجدت الله آخر في الطرقات، يسبه الغاضبون من حياتهم أو من الآخرين أو من شيء لا يعرفون ماهو، ويناديه بصوت مرتفع عمال البناء الأجانب، وتستند عليه العجائز وهن يقضين حوائجهن مابين الزنقة والحومة، و تعيد أمي بأن رحمته أوسع من ملكه، خلافاً لما يفعله من ذهبوا إلي بيته وعادوا كائنات حانقة موتورة، لقد صدقتهن فيما قلن، الضعيفات اللائي يسند إليه خلقهن ناقصات عقل ودين، حتى لو كان ماقلنه عنه لا يعدو كونه تصوارت ذهبت مذهب اليقين، فقد صدقتها، لأنها حسنة ولا تؤذي أحداً حتى ولا الله نفسه، إن رحمته أوسع من ملكه، كيف قاسوها، كيف توصلوا إليها وهم الذين ينامون مع الدجاج ويصحون مع الديكة، الذين لم يتركوا رقعة من الأرض إلا وصلُّوا له فيها، وأينما التفتوا توكلوا عليه، الذين لا يعرفون ماذا قال في القرآن عن كل شيء، ومع ذلك هم أشد إيماناً به ورضىً بقدره. تضيء مقولاتهم في وجودي أكثر من مقولات المدرسة.

ثم أتى الوقت الذي اختلف فيه الله الذي في الجامعة عن الله الذي في الجامع، كان محل جدل وشك وحوار، كما كان مصدر تهديد وترهيب وتعذيب، وكان بحسب المنكرين لا وجود له إلا في خيالنا، وبحسب المتشددين إلها عنيفا ليس لديه رحمة، يريد الانتقام ممن خلق، ذلك هو هدفه من خلق الحياة الدنيا، كيف لا وهم لم ينفكوا عن توزيع صورته في المجالس، يضرب الخلق بجريدة خضراء (خوص النخيل) ويشويهم في النار وينسف بهم الأرض ويسلط عليهم القمل والجراد والحكام الظلمة، ويرسل لهم الأمراض والأوبئة والفقر والفلس والدعارة. ثم عندما يطويهم الردى تنتظرهم هناك تحت التراب عائلة الشجاع الأقرع.

لقد كرهته وأحببت إله العجوز الأمية، الذي تعلق اسمه وسط بيتها وتمسحه كل يوم كي لا يتراكم عليه الغبار، حتى ناديته في الأخير، إلهي مثلها وورثت عنها مسح الغبار. ولم أسألها سؤالي الحائر: إذا كان الله قادراً على كل شيء لماذا لا يزيل عنا الغبار الذي نحياه منذ البدء، لماذا لا يفعل؟!

لديه المطر فلماذا لا يرسله للعطاش الذين يقتلهم الظمأ، لديه المسكنات للألم فلماذا لا يرسلها للمرضى، وهو الذي أوحى ببعض الحلول للمتأزمين من الأنبياء وأمهاتهم (وأوحينا إليك وردت كثيراً في القرآن)

ثم جاء الله بشكل محدث في التلفزيون، وكان عبارة عن آلهة عند الفقهاء ومشائخ الفضائيات، حتى أنه يضع عقالاً مثلهم ويحتقر جنس النساء الذي خلقه، ويحمله كل خطايا الوجود، أي أنه في الأخير يزدري صنيعه!

كرهته بحسبهم وهذا متوقع من ذي فطرة سليمة لم يختر جنسه ولا يقبل بإهانته كنتيجة لاختيار إلهي، ولكني في الوقت نفسه لم أختر أن أحبه بسيطاً معافىً من التعقيد والغلو كما وجدته في مراقد الصالحين، عند سيدي مرعي راقد جردينه وعند سيدي عبد السلام الأسمر وأطمأن قلبي له أكثر في تواشيح البغدادي بمناسبة المولد النبوي الشريف. حيث لا يقولون عنه هناك ما يربطه بدراكولا.

صرت أبدل القنوات التلفزية التي أجدها تتكلم عنه حتى لا أكرهه بالمزيد، لقد كان صناعة خاصة بهم وليس الله الذي خلق اتساع السموات والأرض وقالت عنه العجائز، غفور رحيم كريم ودود حنان منان، يحب السترة ويحب العطف ويحب التهدئة وغض الطرف عن الكثير مما يرهق الأعصاب.

أرجوك تدخل، لم تعد الإشارة إلى وجودك بخلق البحار والسموات والأرض والدنيا والآخرة كافية لي للتدليل على وجودك في هذا العدم

وفيما الحال هكذا مابين تبديل القنوات وتبديل السروج أيضا لما فيه من راحة لتكويني، كبرت على ركبة إحداهن وهو جزء مني إلى أن صحوت في الأربعين، ووجدت الله أخر مختلفا تمام الاختلاف في أوروبا، رتب لهم الحياة كولي أمين وغادر إلى الأبد، شيئاً فشيئاً افتقدته، لكني لم أكرههم لأنهم لا يبحثون عنه ولا يتواصلون معه، رغم أن كل شيء يسير سيراً حسناً بدونه، عشت ومعي إلهي، ذاك الذي كونته في الفصل ذي اللمبة المعطوبة والجدران الرطبة وأسقف الخشب المليئة بالأبراص والصراصير، صرنا معاً هناك وحدنا في بلاد يقول أناسها أن الله هو الدينار أو المال (IL dio è denaro) أكلمه وهو صامت لا يجيب على الأسئلة الموجهة إليه وحده، رغم أنه لا يتدخل عندما ألح عليه لوقف الحرب والبغضاء، ألومه وأغضب منه وأحزن ولا أكلمه أياماً، ورغم ذلك أدرك أن شيئاً ما من لدنه يعطل كونه قريبا يجيب دعوة الداعي إذا دعاه.

أين أنت أريد أن أراك كما تراني وأسمعك كما تسمعني وأطلع عليك كما تطلع عليَّ، وأن ألمس وجودك في هذه المعمعة التي نحن فيها، أرجوك تدخل، لم تعد الإشارة إلى وجودك بخلق البحار والسموات والأرض والدنيا والآخرة كافية لي للتدليل على وجودك في هذا العدم.

أرجوك نظم لنا حياتنا كما نظمتها لهم ولا تغادرنا كما غادرتهم، وهون الإجراءات الأمنية المشددة مابين بيتك في آسيا وبيتي في أوروبا حتى يمكنني وآخرون عالقون مثلي زيارتك. أرجوك لا تجعلنا مثل الأمة السورية التي دعتك عامين (يا لله مالنا غيرك يا لله) فأخرجتهم من أرضهم صاغرين وأبقيت الأسد فيها! أرجوك نريد أن تحدد لنا موقفك باكراً من كل شيء ولا تتركنا عالقين في التأويلات، فإنه والله لا ينقصنا أن تنقسم داخلنا إلى آلاف الآلهة المتضاربة مع بعضها البعض، حتى لكأن بيوتنا كذبت علينا وصدقت شوارعنا وكان ماقالته العجائز لنا عنك محض خيال عجوز، فيما لا تزال الغرفة المعتمة من الكون تنبري وحدها للدفاع عن وجودك بقليل من النور أكثر من دور العبادة وحشد من رجال الدين.