Atwasat

نظرية رفة الفراشة على الطريقة الليبية

نجوى بن شتوان الإثنين 09 مايو 2016, 09:59 صباحا
نجوى بن شتوان

ط (رياضياً= طايح السعد) م (رياضياً= من يطيح السعد)

(ط) في بقعة جغرافية بعيدة جداً عن البقعة التي بها ميم، لا يعرفان بعضيهما، شركاء في الجنسية الليبية فقط التي يعتبرها (ط)سجنا ويخالها ميم نقطة تميز رباني! سجين القدر (ط) يشرب قهوته ويقرأ الدولة والتعدد الثقافي لسافيدان أو يحاور نفسه وهو يحل مكعب روبيك، وسائر يومه يؤدي نشاطات حيوية عادية منها البحث الأكاديمي، دون أي تقاطع مع أنشطة ميم، الذي يؤيد الإسلام السياسي أو بابا معمر أو سيدي إدريس أو الحاج حمد.

(ط) يعتقد نفسه حر نسبياً وبمنأى عن الباباوات والأسياد والحجاج من أي نوع (علماني أوديني)، كافح ليصنع عالماً بمكونات تناسبه في عالم غير مناسب البتة، كتب، راديو، تصوير، مكعب روبيك، وانتظار طائر المساء في الحديقة.

ذات قبلي، كتب ميم على جداره الفيسبوكي مؤيداً تحركات الجماعات الإسلامية العنيفة، أو هكذا قيل، فما كان إلا أن قبضت عليه الشرطة الإيطالية وحققت معه ثم وضعته تحت الإقامة الجبرية.

(ط) مازال يعيش نسبيته ولا علم له بشيء، أكمل كتاباً وبدأ في آخر، حل مكعب روبيك مرتين، قام بجميع واجباته المدنية والدينية، ونام ببرد أقل عندما تبرع بثمن أغطية لبعض المهجرين في بلاده.

ذات صباح وصلته رسالة على بريده الإلكتروني من سفارته القدرية، تستعجله الحضور وتعده برد تكاليف السفر دون تبيان السبب، من نسبية (ط) التي كونها عن السفارة، أنها لا تكون سخية إلا في حالات المصائب، فما المصيبة التي حدثت وتستدعي حضوره؟!

حجز تذكرة السفر على عجل، وتنقل مسافات طويلة في طقس شتائي قاسٍ، اختلفت فيه الجغرافيا والضغط الجوي والتوقيت على كتلته كاملة، وصل عموده الفقري مجهداً، جعلوه ينتظر مثل الكلب الأجرب حتى يتأكدوا من أنهم استدعوه، كانت فرائصه ترتعد، والبول يحاصره، آخر مرة استعمل فيها الحمام كانت في السماء على ارتفاع يزيد عن ثلاثة آلاف قدم عن مستوى سطح البحر، صار بحاجة لحمام السفارة مهما كانت صفته غير دبلوماسية. عموماً الميكروبات في الحمامات لا تفرق بين حامل فايروس وحامل جواز دبلوماسي أو دبلوتاكسي. هذا ماقاله له السيفون.

لعله استغرب الطريقة التي يتصرف بها أبناء هذا الشعب الراقي في الغرابة

في غرفة انتظار في جنان السفارة استجوبه رجل بسيط، غفر له (ط) بساطته لأن (هذا وجه الحاج اللي حج بيه) وحاول أن يتبسط لمستوى الحديث ويجيب على الأسئلة الموجهة إليه ككائن برمائي.
- هل لي أن أعرف لماذا استدعيتموني؟
- نريد أن نسألك عن ميم، هل تعرفه؟
- لا..لا أعرفه ولا أريد معرفة أي ميم، كرهت البقاء في وطني بسببهم فهل سأجعل مجالاً هنا؟ قرأت خبر قبض السلطات عليه في بعض المواقع.
- نريد معلومات عنه.

يبتسم (ط) لبساطة الطلب لأنه ليس جاسوساً أو ناقل أخبار ولم يسبق له أن تعامل مع اللجان الثورية أو الأمن الداخلي ولن يتعامل مع أي مسمى له نفس الوظيفة.
- قلت لك لا أعرفه.
- قصدي نحتاج معلومات عنه.

يكشر (ط) ويهدل شفتيه دلالة كيف، مستحيل، أنتم تبحثون عن الشخص الخطأ، أنتم....لا هناك كلمة أخرى أنسب نسيتها للتو، أنتم....، لا هناك كلمة أنسب، أنتم أنتم، من أنتم؟ يخرج الرجل البسيط ويتحدث مع رجل غير بسيط، ثم يعود ناصحاً (ط) بأخذ الحذر لأن الجميع صار في مرمى البوليس السري الإيطالي.

هز (ط) رأسه لا يريد الخوض في المزيد وسأل الرجل البسيط:
- البركة فيمن جعلنا شعبا ميليشياويا، لديهم كل الحق، فهل لديكم قهوة لي؟

ارتبك الرجل البسيط وشعر بالخجل لأنه لم يقم إلا بواجب طرح الأسئلة على (ط) في جنان السفارة.

تأتي القهوة ويظل (ط) يشربها حتى بعد انتهاء الفنجان ويقول للرجل البسيط (ريقي شايط من ثلاث أيام نحساب إلا أمي صارت فيها حاجة) ومن الطبيعي على الطريقة الليبية أن تكون تتمة الجملة حتى وإن لم يجهر بها (الله يعطيكم دعوة في روسكم ،الله يشيط ريقكم)

بعد أن ينهي الرجل البسيط نصحه أو تحذيره، ليفهمه (ط) كما يفهمه، يتركونه جالساً وحده مثل الكلب الأجرب مع صورة السفير والطاقم العامل في السفارة، يتأمل فيهم حال الدنيا، الرجال يشغلون المقدمة والميمنة والميسرة، وفي العمق تنكمش سبع صبايا في القصباية.

لعله استغرب الطريقة التي يتصرف بها أبناء هذا الشعب الراقي في الغرابة، لماذا يعلق موظفو دولة صورتهم الخاصة في مقر عملهم وكأنه مربوعة جدهم الأول؟! أليست ليبيا دولة ولها آباء مؤسسون؟ لماذا لا يضعون صورهم؟ لماذا لا يعلقون صورة عمر المختار مثلاً أعظم الآباء المضحين؟! بل إن في مضافات الليبيين يعلق أبسط الناس صور أجدادهم الذين لم يفعلوا شيئاً في حياتهم سوى الزواج من أربعة والموت على فراش الحلال، فيترحم عليهم من ينتبه لوجودهم، كما لو أن الخيل والليل والبيداء عرفتهم والسيف والرمح والقرطاس والقلم. في السفارة الليبية بروما لا يمكنك أن تترحم على أحد، فأحداً لم يؤسس لشيء أو يجاهد أو يضحِّ من أجل شيء!
ليسو إلا صورة تتغير مع الوقت في نفس الإطار ونفس المكان ونفس القصباية.

ومابين أبعاد الصورة في الإطار وأبعادها الحقيقية في الخارج، توجع الكلب (ط) من ضغطه المرتفع ورجليه الورمةتين ورأسه المليء بالصداع ومن هوان وطنه على العالمين، الذين يجتمعون اليوم في روما لتقرير مستقبل بلاده والتجهيز لتدخل عسكري فيها.

صارع الحزن في داخله لئلا ينفجر بأي شكل، وطلب منهم مقابلة السفير، فتبادلوا النظرات فيما بينهم في استراتيجية ركيكة، القصد منها عزل السفير عن الكلاب الجرباء، قائلين نفس الجملة القديمة (السفير في اجتماع) نظر (ط) للساعة فوجدها الثانية والنصف ظهراً، شعر أن تكذيب الكذبة سيزيد من صداعه، فاجتماع روما لاستعمار بلاده هو الاجتماع الحقيقي وعدا ذلك مجرد هراء ليبي-ليبي.

أدار (ط) نظرة في الحجرة، وجد المصباح مضاءً في وضح النهار، أطفأه لوعيه بأن ليبيا هي من تدفع الضريبة وليقينه بأنه يفعل ذلك حفاظاً على ألا تدفع ليبيا قيمة استهلاك لم تستعمله، وليس لأن ماوفره لها بحركته تلك سيدخل جيبه، أو لا قدر الله سيزيل المهابة عن صورة الموظفين المعلقة! ثم خرج من الباب الذي يفوت الكلاب الجرب عادة، متوقعاً أن يكتب أي ميم شيئاً لا يعجب حكومة ما في الدنيا، فيرسلوا وراءه للتجسس أو التحقق أو التحذير أو أو، كيف لا؟ ورفة الفراشة تنص عن أن(ط) يجد (ع) في (ر) رياضياً (ع) هي العظم و (ر) هي الرئة. إذن النتيجة الحتمية، لا يمكن أن يتغير حال (ط) مادام هناك ميمات في الكون ترسل ذبذباتها إليه بطريقة عجيبة.

بعد انتظار في المحطة يستقل الباص لمحطة القطار المركزية، التي تلحظ انتشاراً أمنياً مكثفاً، خشية من أي هجمات إرهابية، يداهم البوليس الباص ويشرع في التفتيش، يرتبك (ط) من مواقف الاتهام التي تكررت في حياته وصنفته كمهاجر موضع اشتباه دائم، لا يجد شيئاً يلعنه من جديد فقد أشبع كل تكوينات هويته الصغيرة والكبيرة باللعنة من قبل، يذهب للمبيت عند صديقة تقيم خارج روما، يستقل القطار إليها ساعة، ترحب به باكية عند وصوله، يسألها باهتمام عما يبكيها، خاشياً أن تكون زارت السفارة الليبية هي أيضاً أو مرت بالقرب منها، لكن الصديقة تأخذه من يده للأرشيف فتثبت براءة السفارة، تريه طاولة مستديرة ممتلئة بقناني طبية مصفوفة، يدور رأسه مع هذا المشهد البلاستيكي العارم الذي سبق له التشبع به في الاجتماعات الحكومية لبلاده، نصف مصنع من قناني الماء يجتمع مع المجتمعين، حتى فهم البلاستيك أن أولئك هم أهم مصادر التلوث البيئي وليس البلاستيك نفسه!

يعود من طاولات بلاده إلى طاولة الصديقة سائلاً: كيف تولد لديك الاشتباه بسرطان الأمعاء؟
- لون برازي أسود!

في القطار الناس محشورون كالسردين رائحة إباط غريبة يتحامل على نفسه محاولاً نسيان الساعة التي يستغرقها القطار للوصول

يحاول ألا يزداد قرفاً من تخيل إنسان يشاهد فضلاته بعد طرحها! يقول لنفسه: إنها عملية توزيع أرزاق إلهية، فأحدهم يذهب لمكان ما كي يجد مائدة مطروحة أمامه بشكل مفاجيء، وأحدهم يذهب ليقع في حفرة لادخل له بمناسبة حفرها، وأحدهم يعثر على كنز وأحدهم ينتظره غائط مبيت!

يرضى بقسمته ويبذل جهداً لمواساة الصديقة بلطف وطمأنتها بأن السرطان لا يأتي إلا من حياة كحياته هو، وميمات منتشرة بسخاء أينما ذهب، وظروف عيش كالتي هناك، مشيراً بانكسار لاتجاه وطنه، تهدأ الصديقة وتسأله إن كان جائعاً، يدعي بأنه تناول الغداء والعشاء في وجبة واحدة قبل صعود القطار، كي لاتستشعر قرفه، أريد فقط حماماً ساخناً وفراش ونوم. لماذا أنت هنا؟ تسأل الصديقة. يروي لها التفاصيل، فتضحك قائلة: إن سفارتكم تحلل موقف ميم كما أحلل أنا برازي البائت.

في الصباح معمل التحاليل يأتي في الطريق قبل المحطة، الحرارة منخفضة، نوافذ السيارة مقفلة، تلف الصديقة سيجاراً ثم تتراجع عن تدخينه لأنها لا تستطيع التدخين في سيارة والدها، يتنهد (ط) ويفكر في رائحة السيارة التي تشبه رائحة الخيل، تنزل الصديقة للمختبر، ينتهز الفرصة ويجري للتقيؤ قريباً من شجرة لا ذنب لها. بعد أن ينتهي ترمي له الشجرة ببرتقاله لكي يشمها، يحمد لله الذي بفضله تتم الصالحات، فكما كانت شجرة التفاح سبباً في اكتشاف الجاذبية الأرضية، كانت شجرة البرتقال سبباً في عودته إليها.

في القطار الناس محشورون كالسردين، رائحة إباط غريبة، يتحامل على نفسه، محاولاً نسيان الساعة التي يستغرقها القطار للوصول، بالندم على عدم اصطحاب مكعب روبيك. في باص المطار تجلس قربه شابة أمريكية رائحتها صنان، يحاول نسيان الساعة التي يستغرقها الوصول، بالندم على عدم اصطحاب كتاب، في الطائرة من خلفه بنغلاديشي يتحدث بصوت عالٍ في نقال صيني ذي صوت شديد، ثم إعلانات الشركات التي لا تتوقف طيلة الرحلة، يحاول نسيان الساعتين اللتين يستغرقهما الوصول، بالندم على عدم اصطحاب منوم.

في الباص المؤدي لمركز المدينة، رائحة الحذاء الرياضي لرجل الأعمال الوسيم الجالس بقربه، نافرة جداً، يحاول الإفلات لمقعد آخر، لكن الكراسي كلها مشغولة، يريد أن يتقيأ لكن معدته فارغة فيعوض ذلك بالصداع النصفي للنصف المتبقي من رأسه دون صداع.

يدخل بيته مساءً وهو عبارة عن كتلة ندم وجودية، يجده كما تركه بالأمس، رائحته لافندر، مكعب روبيك محلول من جهة واحدة على الكتب، الراديو الصغير قرب النافذة، المسكنات، وغريغور بعد أن تحول صرصاراً ينتظره كغريب آخر في هذا العالم غير المعقول ليموتا معاً*

يرتمي على السرير، تحاول أغنية منسابة من الراديو تخفيف شعوره بالضيق، ينكمش على نفسه في الوضع الجنيني، وينفجر باكياً لنفس السبب الذي بكى منه، يوم ولدته ست الحبايب!

* بطل رواية المتحول لفرانتس كافكا.