Atwasat

شوية غضب لو سمحتم

سالم العوكلي الأحد 17 أبريل 2016, 09:13 صباحا
سالم العوكلي

تلقيت ملاحظات من بعض الأصدقاء حول حدتي في بعض المقالات الأخيرة، واستخدامي أحيانا لكلمات نابية في كتابات تتعلق بالشأن الليبي، وبالتأكيد لم أجد تبريرا مقنعا أو تفسيرا يمكن أن يخفف من صدمة بعض الأصدقاء التي عبروا عنها في رسائل عتاب لطيفة. ما جعلني أطرح السؤال نفسه ومن منطلق حرص الأصدقاء على نقاء الكتابة من الانفعالات التي قد نندم عليها أو لا نندم: لماذا كتبت بغضب؟ خصوصا وأنا في هذه السن التي من المفترض أن تكون مرحلة هدوء وحكمة، وبعد ما يقرب من 3عقود من النزيف الأسود.

غير أن هذا السؤال هو في الواقع مشروع إجابة تنتهي بعلامة استفهام، لأنني في الفترة الأخيرة حرصت على الكتابة وأنا منفعل، وحرصت على أن أقول ما يعتريني وأنا في ذروة الغضب، وربما من حسن الطالع أو من سوئه أن يتوفر في قنواتنا عبر أحاديث السياسيين الليبيين الجدد كل ما يثير الغضب أحيانا والسخرية غالبا، وفي كل هذا لم أستطع ممارسة طقوس الصمت المريحة التي يتمتع بها الكثيرون ويستمرون في حياتهم اليومية في غمرة من رضا الآخرين.

نعم كتبت بغضب وشتمت وخرجت عن الأدب، وعزائي في كل هذا أني متألم جدا مما يحدث، وعزائي أيضا أني لا أطمح في هذا الوطن الشاسع والقاسي لأي منصب أو ثروة أو جاه، فمثلما عاش أجدادي وأسرتي على الكفاف، عشت الحياة نفسها تقريبا؛ في عهود الملكية، والجمهورية، والجماهيرية، وعهد ما بعد فبراير الذي لم تحدد فيه حتى الآن هوية ليبيا السياسية.

ومتأكد أني سأعيش هذا الكفاف حتى نهاية عمري، لذلك ليس لغضبي أي ثمن سوى أن" أفش خلقي" كما يقولون، وأن أنقل صوت الناس الغاضبين في الطوابير الطويلة.

قال اليساري الأول في الإسلام أبوذر الغفاري: عجبت لمن لا يجد قوت يومه أن لا يخرج على الناس شاهرا سيفه. وهل سنستغرب مواطنا أعزل في الألفية الثالثة يصرخ أمام المخبز الخاوي شاهرا لسانه، كل ما يملكه: نبوا خبزة يا أولاد (...).

لا نريد أن نحمل سلاحا ولسنا من مروجي العنف لكن على الأقل نريد وقتا أو مساحة نصرخ فيها ونغضب ونقول ما نشاء عمن تاجروا بنا وجعلونا في قلب الجوع والخوف

عندما كانت الدكتاتورية منظومة موضوعية حسب منطق التاريخ وطبيعة المجتمع والعقل المهيمن، دكتاتورية بمؤسساتها وآليات قمعها وطرق إدارتها للجموع وحالات للاحتقان، كنا نواجه هذه المنظومة بموضوعية التشخيص التي تحاول تفكيك بناها الثقافية والاجتماعية، لكن حين تخرج اللعبة عن قواعدها التاريخية والمنطقية ويصبح القمع سائبا وغير منضبط، ولا يفرق بين أحد وأحد، حين يأتي الطغاة عبر صناديق الاقتراع وليس على ظهر دبابة، وحين أعلى سلطة دينية متمثلة في رأس دار الإفتاء يحرض على الجهاد ضد مؤسسات الدولة، ويصف من لديه رأي مخالف في دولة مثل قطر بأنه أدنى درجة من الكلب، وحين يتشابك أعضاء البرلمان بالأيدي وبالشتائم المقذعة، ويتلاكم أعضاء المجلس الرئاسي بـ" البوني" أمام المراقبين الدوليين في الصخيرات، وحين يخرج علينا أعضاء سلطتنا التشريعية المنتخبة يتحدثون من فنادق العواصم العربية وغير العربية متحدثين باسم الشارع أوالشعب، حائلين دون اكتمال نصاب انعقاد البرلمان في أصعب الظروف التي تمر بها البلد في تاريخها، معتبرين هذا التسيب حقهم الديمقراطي، وحين يخوّنون بعضهم البعض ويكفرون بعضهم البعض على الشاشات وكل منهم يجزم أنه يمثل صوت الشعب الذي لا صوت له، حين تُسجل مقاطع لرئيس أول سلطة تشريعية نصب نفسه القائد الأعلى للقوات المسلحة وهو يعتذر عن نزواته، ثم يظهر علينا في منصة القذافي في ميدان الشهداء مرتديا ملابس عسكرية مقلدا قائده السابق دون أن يملك الحد الأدنى من كاريزمته، مستعرضا ميليشياته الخارجة عن القانون مثلما يستعرض حسن نصر الله ميليشيات حزبه الذي يسميه بكل صفاقة حزب الله وأيضا دون أن يملك الحد الأدنى من كاريزمته، حين يُقصف مطار طرابلس الدولي وسط التهليل والتكبير من قبل من يدعون أنهم الثوار الوحيدون في الوقت الذي خرج القذافي من طرابلس دون أن يهدم فيها حجرا، حين يُخطف رئيس الوزراء وتُسرق ملابسه الداخلية، وحين يقفز السويحلي (الذي قال مرة فلتذهب ليبيا إلى الجحيم) بطريقة مسرحية هزلية على رأس مجلس الدولة ضاربا بالاتفاق السياسي وبأخلاق الحوار عرض الحائط.

حين يحدث كل ذلك فنحن لسنا في ظرف تاريخي موضوعي أو له علاقة بالمنطق السياسي، واقع لا يمت للدكتاتورية الرصينة التي تحترم نفسها بصلة، ولا يمت للديمقراطية حتى وهي في أولى خطواتها بصلة، ولا لقيم مجتمعنا المتوارثة بصلة، ولا لأخلاق الفرسان في الحرب أو السلام بصلة، حين ذلك لا يمكن لكاتب بلغ من العمر عتيا، وعُرف عنه نوع من الهدوء في كتابته، إلا أن يظهر على هذه العبث شاهرا قلمه، أوالكي بورد، ليشتم ويسخر، ولا يمكن لمواطن يعرف أنه سيعود إلى أبنائه دون خبز أو دقيق سوى أن يشهر لسانه على الملأ ويقول ما في داخله من غضب في زمن أصبح فيه السيف وبندقية الصيد لعبة أطفال أمام مسؤولين منتخبين تتثاءب خلفهم فوهات المدافع والميم طاء والأربعطاش ونص.

لا نريد أن نحمل سلاحا، ولسنا من مروجي العنف، لكن على الأقل نريد وقتا أو مساحة نصرخ فيها ونغضب ونقول ما نشاء عمن تاجروا بنا وجعلونا في قلب الجوع والخوف في أغنى دول العالم وأكثرها تجانساً وتشبثا بالسلم الاجتماعي.