Atwasat

بين العمامة والعقال

سالم العوكلي الأحد 20 مارس 2016, 09:23 صباحا
سالم العوكلي

منذ انحسار الخلافة العثمانية في عشرينيات القرن الماضي، بدأت الدولة العربية القطرية تستعيد استقلاليتها وهويتها، وتمت هذه الاستعادة التدريجية ضمن مقاومة الاستعمار الغربي الجديد، سواء كانت هذه المقاومة مسلحة أو سياسية، لكن بعد أربعة قرون من الجمود الذي فرضته الإمبراطورية الدينية التركية، والتي لم تكن تتعامل مع الأقاليم التابعة لها سوى كونها مصدر خراج لها، بدأت تتشكل ضمن آليات التصادم والاحتكاك مع الغرب إرهاصات ما يمكن أن نسميه بالتنويرـ واستطاعت المراكز الحضارية المهمة في المنطقة العربية أن تشكل بؤر إشعاع ثقافي وفكري، سواء كان هذا الإشعاع محمولا على ثقافة المقاومة النابشة في التراث عن الهوية وعن طاقات التحرر التاريخية، أو كانت من خلال محاولات الاندماج في الحضارة الجديدة المهيمنة بكل ما تبشر به من إرساء بنى العقل المتمدن ولآليات الإدارة الاجتماعية الجديدة وما يتمخض عنها من قيم تحررية ، وحدث هذا حتى في أكثر الصدامات حدة مع الاستعمار، خصوصا في الجزائر وليبيا.

برزت خلال هذه المرحلة التي كان تسمى حقبة النهضة عواصم تنوير حضارية مهمة استطاعت أن تُكون مراكز استقطاب ثقافي وفكري لباقي أقاليم المنطقة، خصوصا في القاهرة وبيروت ودمشق وبغداد، إضافة للمغرب العربي الذي لم يكن تأثيره واضحا بسبب عزلته الجغرافية واللغوية إلا في العقود الأخيرة.

واستطاعت جل المجتمعات، خصوصا بعد الاستقلال، أن تحشد قواها عبر ما تشكل فيها من نخب سياسية وثقافية، إضافة إلى تشكل طبقة وسطى مهمة في الكثير من الأقطار كوعاء لتفاعل هذا الأفكار الجديدة؛ التي، وللأسف، تم تفريغها تدريجيا من قِبل النظم العسكرية الانقلابية في شعارات فضفاضة ومجردة تتعلق بالعواطف وبالحشد أكثر من كونها تستجيب للحراك والنضج الاجتماعي الذي بدأ يظهر في هذه المجتمعات، فحلت شعارات تغذت في كنف المد القومي المتشدد؛ كالوحدة العربية والأمن القومي العربي وقضية فلسطين، وما تشعب عنها من أحزاب يسارية، محل ما كان موجودا من حياة حزبية متعددة، ومؤسسات مجتمع مدني فاعلة خصوصها في جانبها النقابي، وطرْح أسئلة تتعلق بالمشاركة والحياة الدستورية وتحرير المرأة وغيرها من القيم الناتجة عن الاحتكاك بالغرب.

نرى على الشاشات أن أصحاب العقالات والعمائم هم من يخوضون الصراع أو الحوار مع الغرب وهم من يديرون دفة هذه الأمة في ذروة الصراع العولمي

كان يناغم هذه المراحل من التغيير في الأفكار متغيرات في الشكل وفي المعمار، وحتى في الملابس وبدأت بدل السويت وربطات العنق تحل محل الطرابيش التركية لدى الطبقة الوسطى، واكتظ الشارع بالألوان وبالملابس التي تطلق عنان الجسد ومن ثم العقل، وكان من الواضح أن الخيار الحضاري قد رسا على النموذج الغربي الديناميكي بعد قرون من الخضوع للنموذج الاستاتيكي التركي.

وفي هذا الخضم بقيت الكثير من الدول، أو بالأصح الممالك والإمارات والسلطنات، خارج هذا التفاعل مع الحضارة المهيمنة مضمونا وشكلا، ويعكس جدل المضمون والشكل الرغبة القوية في قيم التحرر العصرية والانخراط في آلياتها التقدمية حيث يستحيل الفصل بين الشكل والمضمون في مثل هكذا تمثل أو رغبة.

ظلت تلك الممالك الصحراوية محتفظة بلباسها التقليدي، وفي الوقت نفسه بالعقلية المتماشية مع هذا الشكل، في ظل مقاومة عنيدة وشرسة لكل ما أفرزه العصر أو الاحتكاك بالغرب عبر الاستعمار ومن ثم الانتداب، ورغم أن الغرب هو الذي أسس هذه الممالك، إلا أنه جعلها وفق بنيتها السياسية الطاعنة في القدم بعيدة عن رياح التحرر العقلي أو القيم الحديثة بعكس ما حدث في الحواضر القديمة التي كان من الطبيعي أن تستجيب لنتاجات حضارة مهيمنة، تعتقد أن حضاراتها القديمة ساهمت بشكل أو آخر فيها، بمعنى آخر؛ لم تكن ثمة عقدة نقص أو حالة عناد بدوية تجاه الحضارة الجديدة ومن ثم فكرة التقدم.

مع الوقت، وعبر تحول هذه الأنظمة التي جاءت مع الاستقلال إلى أنظمة شمولية، جعلها فقدانها للشرعية تعمل على مغازلة التيارات الدينية المحافظة في وجه النخب الثقافية الناقدة، اليسار خصوصا، والتي بدأ صوتها النقدي يعلو تجاه المنظومات الحاكمة، ومع تفجر الثروات النفطية في صحارى الملوك والسلاطين والأمراء بدأت المراكز الثقافية والفكرية تنحسر في الحواضر وتنتقل بأموال النفط إلى عواصم التخلف الجديدة والتي بدأت بدورها تسيطر على مصادر المعرفة والترويج لفكرها الرجعي عبرها.

لنرى في العقود الأخيرة أن من يتصدى للمرحلة الجديدة بكل مقتضياتها العولمية الدافقة، العقال والعمامة، ولعل متابعة لقنواتنا الفضائية سيعكس هذا الواقع ونحن نرى على الشاشات أن أصحاب العقالات والعمائم هم من يخوضون الصراع أو الحوار مع الغرب وهم من يديرون دفة هذه الأمة في ذروة الصراع العولمي، وكما ذكرت سابقا لا يمكن الفصل بين هذا المظهر التقليدي وما يحتويه من خرافات تحته، لتسيطر الخرافة على المعرفة الآنية، وللأسف لم تستطع المراكز الثقافية مقاومة هذا الفكر الجديد المدعوم بثروات نفطية هائلة، وبوجدان شعبي جاهز لامتصاص الخرافة، أمام فشل السياسات التعليمية واضمحلال الطبقة الوسطى، فرأينا العقال وهو يحيط بحاضرة تنويرية مثل بيروت ليجعلها مستهلكة لمعارف الصحراء والبدو، والعمامات، السوداء والبيضاء، تحيط بمدن مثل دمشق وبغداد والقاهرة.

* تداعت كل هذه الأفكار بعد أن سألني صديق: ماذا حدث لهذه الأمة؟ فأجبته بارتجال وبسرعة، هذه الأمة انحدرت بمجرد أن استولى عليها العقال والعمامة. مع تحفظي على استخدام مصطلح الأمة الذي لا يعززه التاريخ ولا الثقافة ولا المستقبل.