Atwasat

الشخصية الليبية الغائبة

محمد عقيلة العمامي الخميس 27 مارس 2014, 07:46 مساء
محمد عقيلة العمامي

الآن، بعد 48 سنة تقريبًا، بدأت أرى بوضوح أهمية تلك الدعوة التي أطلقها المرحوم عبدالحميد البكوش، رئيس وزراء حكومة المملكة الليبية سنة 1967م، بشأن الشخصية الليبية.

معظم شباب الجامعة الليبية، وأنا منهم، لم نستسِغ حينها الدعوة ولم نقبلها؛ لأننا رأينا فيها تقزيمنا وانسلاخنا عن القومية العربية، وأعترف أنني لم أعِ تمامًا أهميتها إلا بعدما انتبهت أخيرًا إلى أن الليبيين خرجوا يؤيدون بيان انقلاب سبتمبر من دون أن يعرفوا من وراء هذا الحدث. لم نعرف اسم أحد منهم إلا بعد حوالي عشرة أيام. الليبيون انطلقوا مؤيدين لشعارات بيان الانقلاب: "حرية، اشتراكية، وحدة"، وفي اعتقادي أنه لو كانت لنا شخصيتنا الناضجة المتينة لما هتفنا لانقلاب سبتمبر من دون أن نعرف من وراءه.

لو كانت لنا شخصيتنا الناضجة المتينة لما هتفنا لانقلاب سبتمبر من دون أن نعرف من وراءه

وما كانت أمواج هذه الفوضى التي تتقاذفنا الآن لو كانت لنا شخصيتنا الموحدة. وما إن سقط نظام القذافي حتى انكشف -كما كتب السيد صالح أبوالخير في عدد "بوابة الوسط" يوم 8/2/2014م- القناع عن الوجه الحقيقي للشخصية الليبية، وهي أنها بلد يعج بالإثنيات والمذاهب والتيارات الفكرية، فعرف الليبيون أنهم ليسوا أمة واحدة، فإلى جانب العرب هناك الأمازيغ والطوارق والتبو والمور والأوروبيون والمالطيون والأتراك والكراغلة والكريتليون والزنوج والجرامنة وغيرهم. وعلى الصعيد الفكري برزت السلفية بكل أشكالها كالسلفية العلمية والجهادية والسلمية والعنيفة، وبرزت حركات الإسلام السياسي كالإخوان المسلمين وحزب التحرير الإسلامي وجماعة التبليغ، إلى جانب الحركات الصوفية التي وجدت نفسها مستهدَفة، ودُمِّر لها مئات الأضرحة والزوايا، إلى يهود ليبيين يطالبون بالعودة إلى وطنهم الذي ينتمون إليه.

في تقديري، أن "الإثنيات والمذاهب والتيارات الفكرية"، التي يرى الكاتب أن ليبيا تعج بها، لا علاقة لها بالشخصية الليبية التي طرحها المرحوم عبدالحميد البكوش، والتي أسس لها مستندًا على رؤية الملك إدريس قبل قيام المملكة، وتحديدًا في شهر أكتوبر 1951م، عندما قال للسيد أدريان بلت: "السيد المفوض، عليك ألا تنسى أن ليبيا، إلى جانب كونها أولاً بلدًا عربيًّا، هي أيضًا مطلة على البحر الأبيض المتوسط، وكانت دومًا على صلات باللاتين والإغريق، ونحن من الناحيتين الروحية والسياسية، نتوجه إلى الشرق، وبالتحديد إلى الأماكن المقدسة للإسلام، لكن ماديًّا سوف تكون لنا دائمًا روابط مع الغرب. وهذا يعني أن سياستنا في حالة الضرورة عليها أن تنهج الطريق الوسط".

ثم عزز وجهة نظره هذه، رحمه الله، سنة 1962، بردِّه على السيد أرموند هامر، رئيس شركة أوكسيدنتال النفطية مبعوث الرئيس الأميركي جون كنيدي، الذي طلب من الملك استقطاع جزء من دخل البترول المتنامي وصرفه على فقراء أفريقيا، فأكد له أن من ينبغي أن نقف معهم هم الذين وقفوا معنا في محنتنا، وهم العرب والمسلمون، أما أفريقيا فيتعين أن يساعدها أولئك الذين نهبوها، أما وإن فاض من مواردنا، ورأينا أن نساعد به أفريقيا فيكون بموافقة البرلمان، الذي هو بمثابة الكونغرس عندكم.

يقول المرحوم الدكتور علي الساحلي، في شهادته على هذه الواقعة، إنه سمع السيد "هامر" وهو يقول لنفسه بعد أن تعثر: "هذا بلد لا يحتاج إلى كونغرس، إنه يحتاج لشخص واحد فقط نتفاهم معه!". وهذه الواقعة مثبتة بشهودها، لعلها هي أساس مصيبتنا.

نحن نحتاج بالفعل إلى بلورة الشخصية الليبية بشكل يحدد هويتنا. وأؤكد أنني كنت مثل كثيرين ضدها عندما طُرحت في ستينات القرن الماضي، وكنت مخطئًا!

الشخصية الليبية، إذًا، هي التي تتأسس وتتشكل وفق هذه الملامح، وقد زينت وسائل الإعلام وقتها الزي الليبي وشجعت على إبرازه، وكذلك اهتمت بالفنون الشعبية، مؤكدة أن كل سلوك مشرف من شجاعة وكرم ومروءة وصدق الانتماء للوطن، هو أيضًا من ملامح الشخصية الليبية، ذلك كله من دون ذكر للإثنيات والمذاهب والتيارات الفكرية. ولو تحقق ذلك لما رأينا حتى هذه القبعات المتنوعة بتنوع ثقافات العالم وأجناسه وشخصياته! الشخصية الليبية لا تقول: إن هناك شخصية ليبية أمازيغية وأخرى ليبية ترهونية أو طرابلسية أو عبيدية، ولا تقول شخصية ليبية مذهبها مالكي وشخصية ليبية مذهبها إباضي. صحيح أن هناك أعراقًا ليبية متعددة بثقافات متنوعة، لكنها تظهر للناس بمظهر يوحدهم هو الإسلام المنفتح على الغرب بسياسة وسطية. ولو عملنا على ترسيخ هذه القناعة لتساءلنا قبل أن ننطلق خلف القذافي: هل ما رفعه من شعارات تتناسب مع كياننا وشخصيتنا أم لا؟ ولكن تشتتنا، نحن شباب ستينات القرن الماضي، بين عربي وقومي وبعثي وشيوعي وليبي (مُتطلين)، وآخر يرى أن الشخصية المثالية هي الغربية، وحتى الأعراق والمذاهب لم تكن واضحة وبارزة تمامًا مثلما هي الآن. نحن نحتاج بالفعل إلى بلورة الشخصية الليبية بشكل يحدد هويتنا. وأؤكد أنني كنت مثل كثيرين ضدها عندما طُرحت في ستينات القرن الماضي، وكنت مخطئًا!