Atwasat

هشاشة الكيان الليبي

عمر الكدي الإثنين 28 ديسمبر 2015, 02:18 مساء
عمر الكدي

أثبت الأغريق في شرق ليبيا والرومان في غربها أن ليبيا تصلح لتأسيس حضارات مزدهرة، تستمر عدة قرون قبل أن تخبو جذوتها، ولكن اليوم يبدو الكيان الليبي شديد الهشاشة بعد انهيار الدولة، وظهور الكيانات القبلية المسلحة.

أول من لاحظ هذه الهشاشة هو محمد بن علي السنوسي، الذي طبق نظرية ابن خلدون، أي الدعوة الدينية والعصبية القبلية من أجل بناء كيان أقل هشاشة، ولكن السنوسي الكبير اكتشف أن دعوته لا تصلح إلا في المناطق البدوية، لذلك ابتعد عن بنغازي ودرنة وهما المدينتان الوحيدتان اللتان كانتا موجودتان في شرق ليبيا في القرن التاسع عشر، حتى قوافله القادمة من افريقيا كانت تبيع بضائعها في مطروح حيث توجد قبائل بدوية ليبية.

كان السنوسي يرى أن المدن ليست في حاجة إليه ففيها محاكم وحكام وتجارة تأتي عن طريق البحر، بينما البدو ليس لديهم محاكم، وهكذا تحولت الزاوية السنوسية إلى مقر لفض النزاعات، وإلى مدرسة لتعليم الدين والكتابة، وإلى مركز تجاري تستريح عنده القوافل، وإلى مركز للتدريب على السلاح، وإلى مركز لجمع الزكاة. فيما بعد سيدرك حفيده إدريس حكمة جده عندما يقرر الخروج من بنغازي بعد مقتل ناظر الخاصة الملكية إبراهيم الشلحي، ويفضل الإقامة في طبرق.

ستحتاج البلاد إلى سنوات طويلة من الاستثمار في التعليم والإعلام والثقافة والفنون والتنمية الشاملة لتقوي هذا الكيان الهش

عبد الله القويري القادم من مصر يدرك هشاشة الكيان الليبي عندما وصل إلى ليبيا وهو يتحدث اللهجة المصرية، ويصدر "معنى الكيان، وكلمات إلى وطني، والشخصية الليبية"، ردا على كتاب "السنوسية في برقة" للعالم الانثربولجي البريطاني ايفانز بريتشارد الذي قال في كتابه إن ليبيا ما هي إلا مجتمعات وجزر معزولة لا يربطها أي شيء. بينما حاول عبد الحميد البكوش مواجهة التيار الناصري في ليبيا بعد توليه الوزارة عام 1967 التنظير للشخصية الليبية؛ ولم يجد علي فهمي خشيم إلا التراث الروماني والأغريقي لصنع هذه الشخصية، فترجم كتاب تحولات الجحش الذهبي ودفاع صبراته لأبوليوس، وحسناء قورينا لبلاوتوس، ونصوص ليبية وقراءات ليبية، ولكن بعد انقلاب القذافي انقلب خشيم على نفسه، وبدلا من الشخصية الليبية أصبح ينظر للشخصية العربية، حتى جعل كل لغات العالم مصدرها اللغة العربية، وهو ما يؤكد هشاشة الكيان الليبي.

لم تجد الحركة السنوسية صدى كبيرا في غرب البلاد، باستثناء المناطق الصحراوية حيث أسست عائلة السني زاوية بمزدا، واعتمدت المنطقة الغربية على النظام الإداري التركي الذي يخول قائم المقام بمهام باشا طرابلس، الذي عادة ما يكون من العائلات الكبيرة في المنطقة، مثل عائلة بلخير في ورفلة وعائلة كعبار في غريان وعائلة المريض في ترهونة وعائلة بن قدارة في زليتن وغيرها من العائلات، بينما خضعت فزان لقبيلة أولاد سليمان وعائلة سيف النصر، والعائلات التي أنجبت علماء دين مثل عائلة الحضيري.

هكذا وجدت إيطاليا ليبيا عندما غزتها جيوشها عام 1911، ولكن الجنرال بالبو تمكن في عشر سنوات من بناء كل هذه المنطقة الممتدة من ميدان الشهداء إلى قصر الملك، وشارع عمر المختار، وهو ما فعله الإيطاليون أيضا في وسط بنغازي، بينما فشل القذافي في تشييد ما شيده بالبو خلال 42 سنة باستثناء حي الأكواخ سابقا في طرابلس، ثم انصرف عن المدينتين الرئيستين في ليبيا ليحول سرت من بلدة تحيط بها الرمال إلى مدينة حديثة بها قصور فاخرة، ها هو تنظيم داعش يحتلها بالكامل، وكأنه يؤكد على صحة نظرية ابن خلدون في رغبة البدو للتحول إلى الحضارة.

ما زاد من هشاشة الكيان هي نتائج الحرب العالمية الثانية، فقد سيطر إدريس في ظل البريطانيين على برقة، بينما انفردوا بالسيطرة على طرابلس، في حين سيطر الفرنسيون على فزان، وبعد مخاض عسير استقلت ليبيا موحدة بأقاليمها الثلاثة، وها هي اليوم تعاني مرة أخرى من هشاشة الكيان، وحتى إذا نجحت حكومة الوفاق الوطني بصعوبة في إعادة كيان الدولة، فستحتاج البلاد إلى سنوات طويلة من الاستثمار في التعليم والإعلام والثقافة والفنون والتنمية الشاملة لتقوي هذا الكيان الهش، وتغادر غرفة العناية الفائقة، خاصة وأن البلاد طوال تاريخها كانت تخضع لطاغية قوي، ولم تتعود على ديمقراطية يكون نوابها ممثلين لهذه الهشاشة.