Atwasat

الصمت

محمد الجويلي الإثنين 23 نوفمبر 2015, 01:18 مساء
محمد الجويلي

لو كان الكلام من فضّة، لكان السكوت من ذهب" هذه حكمة قديمة قدم الزمان ردّدها أبو عثمان الجاحظ معلّم البيان والتبيين الأوّل لدى العرب على مرّ العصور في أكثر من موضع(1) وصمدت متحدّية الأيّام حتّى ترسّخت في عقول الخواص والعوام وصارت اليوم لدى الشعوب العربيّة على مدار كلّ لسان. الثقافة الشعبيّة العربيّة اليوم تحتفي بالصمت وتعتبره على خلاف الذهب الأسود كنزا لا يفنى. فتقول"صوابك سكات" [أي سكوت] للثرثار والمهذار والمتشادق و"الذي يتخلّل بلسانه تخلّل البقرة بلسانها" والعبارات الأخيرة للجاحظ(2) وتؤكّد في مثل من أمثالها التي تحذّر من مغبّة الإسهاب في الكلام"أنّ اللّسان ما فيهش عظم" بمعنى أنّه لا يكلّ ولا يتعب مثل أعضاء الجسد الأخرى ولذلك يتوجّب على صاحبه أن يقمعه ويمنعه من الهذيان، وهي في ذلك لا تختلف عن العرب القدامى في قولهم"ليس شيء أحقّ بطول سجن من لسان" و"اللسان سَبْع عقُور" و"مقتل الرجل بين لَحْييه وفكّيه"(3)
فعلا اللسان ما فيهش عظم.

وهذا ما يتأكّد يوما بعد يوم خلال السنوات الأخيرة التي انفلت فيها الكلام باسم الحرّية من عقاله وصرنا نعيش فيضا، بل فيضانا، كلاميّا وإسهابا وخطلا لم نعش مثله في تاريخنا المعاصر. ثرثرة وهذر لا ينتهي مع كثرة الإذاعات والقنوات التلفزيونيّة الرقميّة تستمع فيها وتشاهد بأمّ عينك صامتا أخرس ولا حول لك ولا قوّة كلّ أنواع الكلم والتحاليل والقراءات والمهاترات التي لا عهد لك بها إلى درجة أنّه يبلغ بك التشاؤم واليأس من الكلام أن تصْرَخَ مع الجاحظ حتّى في وجه القلائل من المحقّين ومَنْ هم على صواب ممّن تتناهى إلى مسامعنا أصواتهم في الإذاعات ونرى وجوههم في التليفزيونات تدعوهم إلى أن يصمتوا ويخرسوا بدورهم لأنّهم يغرّدون خارج السرب ويضيعون أصواتهم هدرا في زحمة الزعيق والنهيق"أنّ الصمت أفضل من الكلام في مواطن كثيرة وإنْ كان صوابا، وألْفيت السكوت أحمدَ من المنطق في مواضع جمّة، وإنْ كان حقّا"(4) مخافة أن يعود عليهم كلامهم بالبلاء كسائر الحكماء عملا بنصيحة أبي عثمان"أنّ اللّسان من مسالك الخَنا، الجالب على صاحبه البلا"(5).

ما دفعني إلى الكتابة عن الصمت وفضائله ولوذي بكتابات الجاحظ في هذه المسألة عسى أن أجد فيها ما يشفي غليلي هو ما تناهى إلى مسامعي هذه الأيّام من كلم(جمع كلام) شفويّ بالصوت فقط أحيانا وبالصوت والصورة على التيلفزيون أو مدوّن على الفايسبوك يحلّل ما وقع لفرنسا الأيّام الأخيرة تحليلا لا يدع لك ردّا عليه عدا أن تدعوَ صاحبه للسكوت عملا بالحكمة الشعبيّة "صوابك سكات". ذهب البعض إلى القول في شماتة وتشفّ أنّ فرنسا تدفع ثمن سياستها الاستعمارية القديمة في المغرب العربي وتنكيلها بأجدادنا وأرفق صورة قديمة من الفترة الاستعمارية يظهر فيها جنود فرنسيون يوثقون رجالا بالسلاسل، على الأرجح جزائريين ويمكن أن يكونوا تونسيين أو من المغرب الأقصى ويقودونهم إلى السجن أو إلى جحيم التعذيب والموت.

هذا يعني أنّه كان لا بدّ أن يموت أناس أبرياء من جميع الجنسيات في مطعم وفي مسرح وفي ملعب لا ناقة لهم ولا جمل فيما اقترفته فرنسا الاستعماريّة، بل أكثر من ذلك يمكن أن يُوجد بينهم بما في ذلك الفرنسيون أنفسهم من أشرس المُعادين للاستعمار والمستعمرين وأكثر من ذلك أن يموت أحفاد الأجداد المستعْمَرين: مهندس مغربي ويترك عياله يتامى وتونسيتان حتّى تقع معاقبة فرنسا على ماضيها الاستعماري القديم في المغرب العربي فـ"كلام هؤلاء يدعو إلى السلاطة والمِراء، وإلى الهَذر والبَذاء وإلى النّفج والرّياء"(6).

لو قيل أنّ فرنسا تدفع ثمن أخطاء تدخّل حكوماتها المتعاقبة في السنوات الأخيرة غير المدروس في ليبيا واندفاعها غير الموزون في سوريا أو لسياستها الفاشلة في الهجرة وإدارة الحياة الحضريّة في باريس والمدن الفرنسيّة الكبرى خاصة فيما يتعلّق بتكديسها المهاجرين في أحياء هي أشبه بالغيتو أو لمعاقبتها على تبنّيها للتعدّدية الثقافيّة والدينّية أو لأنّه هناك من يتربّص بها لإيقاعها في حرب أهليّة بين مواطنيها المسلمين وغيرهم من الفرنسيين من أصحاب الديانات ومن لا دين ولا ملّة لهم ففي الأمر أخذ وردّ وجدل قد لا يتواضع عليه الجميع ويختلف المختلفون في درجة صحّته ومعقوليته ولا يدعو على أيّ حال إلى أن يُطلب من هؤلاء التزام الصمت، أمّا أن يُفسّر قتل أناس عزّل بمن في ذلك أحفاد مغاربيين في باريس اليوم بما فعلته فرنسا منذ أكثر من سبعين سنة مع أجدادنا المغاربيين فهذا الكلام يخرج من حدود العقل"وإنّما سُمّي العقل عقلا- كما يقول الجاحظ- وحِجرا لأنّه يزمّ اللّسان ويخطمه ويشْكُلُه ويُربّثه ويقيّد الفضل ويعقله عن أن يمضيَ فُرطا في سبيل الجهل والخطأ والمضرّة"(7).

لا ينبغي أن يذهب بك الظنّ أنّنا نحقّر من شأن الكلام ونفضّل عليه الصمت في المطلق حتّى وإنْ كان للصمت جلاله وعظمته، والصمت في حرم الجمال جمال كما يقول نزار قباني وكمال أيضا، فالكلام يظّل دالا على الهويّة الإنسانيّة وتمييزها عن سائر الكائنات، فلا يمكن أن نراك تكتب وتقرأ إلّا وأنت"تصف الصمت بالكلام ولا تصف الكلام بالصمت، ولو كان الصمت أفضل والسكوت أمثل لما عُرف للآدميين فضل على غيرهم، ولا فُرق بينهم وبين شيء من أنواع الحيوان... بل لم يمكن أن يُميّز بينهم وبين الأصنام المنصوبة والأوثان المنحوتة، وكان كلّ قائم وقاعد ومتحرّك وساكن، ومنصوب وثابت، في شرع سواء ومنزلة واحدة، وقسمة مشاكلة، إذ كانوا في معنى الصمت بالجُثّة واحدا، وفي الكلام بالمنطق متباينا"(8)، ولكن لا بدّ من التحذير من الكلام الأخرق الأحمق، لا سيما الزائد عن الحدّ الذي يسمّيه العرب بالخَطًل وهو نقيض العِيّ، أي الكلام المقصّر على أداء المعنى والأفضل هو البحث عن التوازن والتعادليّة وقول ما قلّ ودلّ الذي وإنْ لم يقبله العقل بالموافقة والمصادقة فعلى الأقّل يقبل بطرحه للتأمّل والتفكير"وإنّما وقع النهي عن كلّ شيء جاوز المقدار، ووقع اسم العِيّ على كلّ شيء قصّر عن المقدار، فالعِيّ مذموم والخطل مذموم" 9)) وخلاصة القول فإنّه لا يمكن تفضيل الصمت على الكلام مطلقا.

السياق سواء كان فرديّا أو جماعيّا يظلّ هو المحدّد في أن يتكلّم المرء أو يصمت وأيّهما أفضل بالنسبة إليه وإلى المتقبّل، ولكن كما يقول الجاحظ من يحذق الكلام لا نراه إلّا وهو يحذق الصمت ولا خوف عليه وعلينا من كلامه وصمته"وأنّ من تكلّم فأحسن قدَر أن يسكُت فيُحسن، وليس من سكت فأحسن قدَر أن يتكلّم فيُحسن 10)).

الهوامش

1- الجاحظ، البيان والتبيين، المجلّد الأوّل، الطبعة الرابعة، بيروت، دار الفكر، ص.194
303
2- المرحع نفسه، ص.271
3- المرجع نفسه، ص.194
4- الجاحظ، رسالة تفضيل النطق على الصمت، ضمن رسائل الجاحظ الأدبيّة، بيروت، دار الهلال، 1987، ص.299
5- المرجع نفسه، الصفحة نفسها.
6- البيان والتبيين، م.1 ص.201-202
7-الجاحظ، رسالة كتمان السرّ وحفظ اللّسان، ضمن الرسائل الأدبيّة، ص.88-89
8- تفضيل النطق على الصمت، ص.301
9- البيان والتبيين، م.1، ص.202
10- رسالة تفضيل النطق على الصمت، ص.303