Atwasat

العائدون من الجماهيرية إلى ليبيا

سالم العوكلي الإثنين 24 أغسطس 2015, 09:51 صباحا
سالم العوكلي

"لقد كنت أحزن كثيراً وأنا أرى الليبي هائما في وطنه بلا شخصية، ولعلها من صروف القدر أن أجد أني لا أزال حتى اليوم حزيناً بل وأكثر حزناً عما مضى على أهلي من الليبيين والليبيات، لا لأنهم قد وقعوا في الأول من سبتمبر 1969م، في قبضة المجهول فقط، بل لأنهم مازالوا بلا شخصية يعانون شرودا في إحساسهم بالانتماء، فهم يتصرفون اتجاه ما حل بهم فككاً، من كل موصول بينهم وكأنهم لم يكن لهم ماضٍ ولن يكون لهم مستقبل".
رئيس الوزراء السابق عبدالحميد البكوش ـ 1996

أتذكر تلك المرحلة التي اختل فيها وجدان معظم الليبيين، وأصبحوا يكرهون علم الدولة ونشيدها الوطني ومنتخبها لكرة القدم، أو على الأقل المحيط الذي أعيش فيه، وهو يتكون من كل الشرائح تقريبا ومن مستويات ثقافية متفاوتة بالقدر الذي يشكل عينة استطلاع للرأي مناسبة، وكنت أتساءل ماذا إذن تبقى من الوطن؟.

ليبيا أصبحت مفردة محرم كتابتها أو نطقها مع اقتراح تسمية الجماهيرية العظمى، وغدت في الخارج معادلا موضوعيا لاسم القذافي. القذافي الذي كان يفاخر دائما بأنه يرجع له الفضل في أن العالم عرف ليبيا، ويكرر في كل مرة: حين كان الواحد يقول ليبيا، ويقصد في المرحلة السابقة له، يقولون له تقصد ليبيريا؟ ليبانون؟.

إذن ماذا تبقى من الوطن حين يكون الطاغية فيه هو هويته واسمه وشعاره؟ ربما لهذا السبب كره الليبيون أو كثير منهم كل الرموز التقليدية لمفهوم الوطن، تلك الرموز التي تجعل المواطنين في أي دولة أخرى تنهمر دموعهم حين يرتفع علم دولتهم في محفل دولي، أو حين يعزف نشيدهم الوطني، أو حين يفوز منتخبهم الوطني.

ربما هذا المقت للهوية وللوطن ولليبيا الذي تشربه جيل أو أجيال كاملة يكمن وراء ما يحدث الآن فيما يشبه حالة انتقام لاواعٍ من هذا الكيان الذي تنكر يوما في صورة الدكتاتور التي تقابلنا أينما ولينا وجوهنا، في الشوارع، في مكاتب المؤسسات الرسمية، على العملة، وفي الخبر الأول والثاني والثالث والرابع من نشرة الأخبار التي تتكون من أربعة أخبار.

كشفت دراسة أعدتها الباحثة د. آمال العبيدي، في التسعينيات، عن الهوية الليبية، عبر استطلاعها الذي مسح عينة من طلاب الجامعات، أن تقريبا أكثر من تسعين بالمائة حددوا هويات إسلامية أو عربية أو إفريقية أو مغاربية، أو هويات قبلية، وقلة لا تكاد تذكر أجابت بالهوية الليبية، وكان واضحا أن نتائج الاستطلاع خاضعة لتأثير الخطاب التعبوي الذي أرساه النظام السابق، متقلب الانتماء.

العام 1987 زرت تايلاند ضمن جولة سياحة. سألنا سائقُ التاكسي الذي أقلنا من مطار بانكوك السؤال التقليدي: وير يو آر فروم؟ وحين أجبنا: من ليبيا. هتف بذراعه القصير وهو يلم وجوهنا في مرآته المحدبة: أوه. ليبيا قازولين كادافي بومب بومب. وكان هذا كل ما يعرفه عن ليبيا التي على الأقل لم تعد ليبيريا ولا ليبانون، أصبحت مشهورة بنفطها وبحاكمها المجنون وبتفجيراتها التي تنتشر في العالم، من الجيش الآيرلندي إلى نيكاراجوا.

في مقهى بسنغافورا وفي العام نفسه سألني النادل السؤال نفسه وحين قلت: ليبيا. ظهرت على محياه ابتسامة واسعة لم أعرف وقتها مغزاها، وقال لي اجلسوا ولكن أريدكم لبعض الحديث فيما بعد، كان المقهى بسيطا ومكتظا بالسواح، وبعد دقائق جاء بمريوله الأزرق وجلس معنا: هو سنغافوري من أصول ماليزية يتحدث العربية بطلاقة وكان مفتونا بالقذافي، ومن الواضح أن ميوله إسلامية، ويعتبره واحداً من أبطال الإسلام. تضايقتُ من هذه الصورة الإعلامية وبذلت جهدي كي أشوه هذه الصورة، فحدثته، وأحيانا بمبالغة، عما يفعله بالإسلام من تحريف للقرآن وشنق لمعارضيه الإسلاميين في شهر رمضان، وعن السجون المكتظة، وبؤس حياة الليبيين.

سكت مصدوما وربما غير مصدق، كان مازال تحت حادثة قصف السلاح الجوي لمنزله بباب العزيزية الذي حدث قبل عام، وكان لديه يقين بأن من تحاول أمريكا قتله فهو على حق. لكن أمام صدمته المتأتية عن فشل محاولة تقربه إلينا بالغزل في حاكمنا، وجه لي سؤالا آخر، يبدو من خلاله أنه يتابع الشأن الليبي: وماذا عن الرجل الثاني، عبد السلام جلود؟. تفاجأت بالسؤال وأجبته بسرعة: لا يوجد في ليبيا ثان أو ثالث، فقط القذافي يملك ويحكم. ذهب خلف طاولته بعد أن تعكر صفو الوجد لديه ببطله التاريخي، لكن نظراته من خلف الطاولة كانت تقول: أشك في كل ذلك.

أخبرني الصديق الشاعر عبد السلام العجيلي أنه حين كان يَدرُس، بداية الثمانينيات، في جامعة سبها، وصل أستاذ تونسي يُدرّس الأدب العربي، وحين لم يجد شيئا عن الأدب الليبي، اقترح منهجا ضمنه بعض النتاج الليبي، ووزع مذكرة معنونة (الأدب الليبي)، لكن لم يستطع تدريسه لأنه سرعان ما استدعي لمثابة اللجنة الثورية بالجامعة، وحُقق معه، وفٌصل من التدريس بالجامعة، وكأنه قرر منهجا عن الأدب الإسرائيلي.

وعشنا، نحن الجيل الذي استيقظ وعيه في الثمانينيات، واختار الثقافة والإبداع هواية له، حالةَ عزلة عن كل إبداع ليبي، فالمكتبات خالية تقريبا من كتب الإبداع المحلي، جيل الكتاب السابق لنا وُري في السجون، لذلك كان البياتي والسياب ودرويش ونزار قباني ومحمد الماغوط هم آباء هذا الجيل المولود في مخدع القومية العربية، (لا أعرف بالضبط العلاقة اللغوية بين المخدع والخداع) لكن هذا ما حصل، وكانت ليبيا تتقلص في العقل والوجدان والوعي، ولم يتبق منها سوى أسماء تم تهريبها لمواطنين أطلقوا اسم ليبيا على بناتهم.

أذكر التعميم الذي وصل إلى مقرات السجل المدني بالأسماء الممنوعة على مواليد الجماهيرية، ومنها: فتحي وفهمي وإدريس والتواتي والسنوسي، قائمة كبيرة كانت فقط تغطية على اسمين معنيين، إدريس والسنوسي. واستغل بعض الآباء نسيان هذه القائمة لاسم ليبيا فأطلقوه على مواليدهم من البنات، ويبدو أن هذا النظام الذكوري لدرجة الفحولة لا يعنيه سوى أسماء الذكور، نجا اسم (ليبيا) بأنوثته من المنشور المعمم على السجلات المدنية.

وحين اعتُمد الاسم الذي يقطع الأنفاس وفق بيان سلطة الشعب، أول وثيقة تدعي أنها دستورية صدرت منذ تجميد الدستور في الـ 69، الجماهيرية العربية الليبية الشعبية الاشتراكية العظمى، أصبح هذا الاسم مادة سخرية في الداخل والخارج، وكم كانت العظمى، الصفة المستعارة من اسم الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس، مضحكةً في أكثر الدكتاتوريات تخلفا تحت الشمس ومازالت تبحث عن شمسها، رغم اسمها الطويل المرهق الذي أتعب حنجرة المطرب الكبير وديع الصافي وهو يحاول ترويضه بكل نشازاته للنغم، عندما كان المطربون الكبار والصغار يحجون إلى المصرف المركزي، ويتركون أناشيدهم المروجة للأيدولوجيا وقائدها، تصدح في إذاعاتنا بشكل يومي.

كانت ليبيا تختفي تدريجيا في اللغة والتاريخ والجغرافيا والوجدان عبر ضخ تعبوي يقوده قائد مهووس بالتاريخ وبحكم العالم أو أستاذيته، لذلك كل ما فكر فيه الليبيون حول أسباب هذا المحو الطقوسي لهويتهم أن القذافي ليس ليبيّاً ( أنا شخصيا على يقين من ليبيته وعن كونه إفرازا طبيعيا لهذا المكان ومجتمعه)، وذهبت الكثير من الحكايات عن أصله اليهودي وعبر تقديم الكثير من الشبهات أو الأدلة حول ذلك، وفي العموم هذا التفكير في عدم ليبيته كان التفسير الوحيد المتاح لسلوك حاكم معادٍ للمكان يلغي هوية الشعب الذي يحكمه ويبدد ثرواته خارج الدولة المسؤول عنها.

رغم الشكوك التي تحيط به وبالسلالة، اكتسب سيف الإسلام شعبية لا بأس بها بين قطاع كبير من الليبيين، وفي حوار مع أحد المتحمسين له من كبار السن قلت له: سيف متوجه بمشروعه إلى فئة الشباب فما علاقتك أنت؟. فرد: على الأقل يستخدم اسم ليبيا ويعيده للتداول مرة أخرى. وكان حنين ذلك الشيخ إلى الإسم والزمن الجميل تَذْكِرته لدخول عالم مؤيدي مشروع سيف، خصوصا في تلك الفترة حيث كان معظم الليبيين ينقسمون إلى ثلاث فئات محظوظة أو تبحث عن الحظ؛ فئة قليلة ممن يسمون رفاق القايد الذين يتمتعون بامتيازات استثنائية هم وأبناؤهم، وفئة أخرى خدمتها الصدفة وهم مواليد الفاتح من سبتمبر، وهما فئتان مقفلتان إلى حد ما أمام الزيادة، لكن فئة ثالثة تفتح أبوابها على مصراعيها هي منظمة الشباب التابعة لسيف الإسلام، وعلى رأسها العاملون بمشروع ليبيا الغد، وتسمية (ليبيا الغد) هذه حركت الكثير من الشجون والعواطف في الشارع، وأقنعت العديدين أن مشروع الإصلاح ينطلق من حيث وقفنا، أو على الأقل يعيد للبلاد اسمها وهويتها.

غير أن الجيل الحاقد على القذافي والذي ثار عليه وأسقطه بمساعدة المجتمع الدولي وقوى الناتو هو الجيل نفسه الذي تربى- بمفهوم الانتماء الوجداني- في الجماهيرية، خارج ليبيا، وحكاية الوطن ومستقبل الوطن لم تكن جزءا من تربيته وبالتالي اهتمامه، لذلك استأنف بتلقائية تدمير بناه التحتية ومؤسساته مثلما فعل النظام السابق في حربه الباردة على الوطن.

لا يمكن لشخص يُكبّر ويهتف لتدمير مطار طرابلس الدولي أن تكون له علاقة بمفهوم الوطن، حتى وإن كانت مدرعاته تحمل العلم الوطني وحتى لو كان يتمتع بالجنسية الليبية.

لا يمكن لشخص، مهما كانت عقيدته، يجلب القتلة من كل حدب وصوب ليذبحوا شعبه وأقاربه ويدمروا وطنه، أن تكون له علاقة بمفهوم الهوية أو الوطن أو شعور بانتمائه للمجتمع الذي تربى فيه.

لا يمكن لأشخاص انتخبهم الليبيون لقيادة مرحلة ما بعد النظام، وقضوا نصف وقت مسؤولياتهم في مناقشة بند رواتبهم وهباتهم، والنصف الآخر في تحرير وإصدار قانون للعزل السياسي يعزل تقريبا نصف المواطنين، لا يمكن أن تكون لهم علاقة بكيان اسمه ليبيا دفع الثمن الغالي من أجل أن يستعيد هويته ومستقبله وأحلامه.

لا يمكن لأشخاص استباحوا الأملاك العامة والخاصة وجرفوا الغابات واستولوا على الشواطئ وهربوا كل السموم عبر الحدود السائبة أن تكون لهم علاقة ضمير بهذا الكيان وهذا المكان.

لا يمكن لأشخاص سرقوا قوت الليبيين ومدخراتهم، وتحولوا إلى وسطاء لأجندات خارجية تسعى لدمار الوطن أن تكون لهم ذرة إحساس بليبيا.

كلهم ليبيون من فعلوا ذلك، مثلما كان معمر ليبيّاً، لكنهم تربوا في أحضان الجماهيرية بكل أفكارها التجريدية ولم يرضعوا حليب ليبيا، أو يأكلوا أعشابها الحلوة والمرة، مثلما فعل أجدادنا، مؤسسو ليبيا الحديثة، التي سُرقت في الـ 69، و(هُلتت) في 2012 بعد الانتخابات التشريعية.

أما جماعة الإخوان المسلمين التي تمكنت من مفاصل الدولة، فبينها جيل من الكهول، عرف ليبيا منذ ما قبل النظام، لكن طبيعة فكرهم، وهم حقيقة متسقون مع هذا الفكر ومع ذواتهم، لا يؤمنون بفكرة الدولة الوطنية، وبالتالي فليبيا مجرد مكان مليء بالثروات ومشروع دعم لوجستي للتنظيم الأممي الذي يسعى إلى أستاذية العالم، مثلما توهم القذافي بنظريته العالمية. والآن التحدي القائم كيف نعيد ليبيا المفقودة إلى وجدان الجيل القادم، وكيف نستعيد هويتنا الوطنية التي تشرخت بين الطموحات الأممية والنزوعات القبلية والجهوية.