Atwasat

هذا، ولا أكثر

محمد الجويلي الثلاثاء 18 أغسطس 2015, 09:57 صباحا
محمد الجويلي

"هذا ولا أكثر"، حكمة شعبيّة لطالما استمعنا إليها منذ نعومة أظفارنا في محيطنا تتردّد على ألسنة رجال ونساء الكثير منهم كان أمّيا أو شبه أمّي، للتعليق على فعل أو حدث أو خبر سيّء تتراوح درجة السوء فيه من البسيط إلى المعقّد، ومن الذي يمكن أن يُمرّ عليه المرء مرور الكرام في الحياة اليوميّة إلى ما له تأثير جدّي على حياة الفرد أو الجماعة برمّتها، وقد يُستعمل هذا التعبير الذي لا تعبير آخر يضاهيه قدرة على التهدئة وتسكين الآلام بتفاوت درجات حدّتها في سياق فرديّ كما في سياق جماعيّ، تفسّر أو تبرّر في إيجاز الأفعال التي يرتكبها الإنسان أو التي يكون موضوعها، أي في حالتي الفاعليّة والمفعوليّة بنفس الدرجة، سواء كان في صيغة الفرد: الأنا أو في صيغة الجمع: النحن في أنماطها المختلفة والمتنوّعة وعلى سبيل المثال- والأمثال في هذا الصدد سواء كانت من صميم الواقع أو من جنس تلك الأفعال والأحداث، التي يمكن أن تحدث لا تحصى ولا تعدّ- تُقال هذه الحكمة عندما يقع كأس على الأرض ويتهشّم دون أن يجرح صاحبه، فتكون خسارة واحدة وأذى واحدا (في ما هو مادي) أفضل من خسارتين، كما يمكن أن تُقال عندما يقع حادث بارتطام سيّارتين جديدتين اشتراهما صاحباهما بعد عناء شديد، فتهلكان هلاكا تاماّ ليس بعده إصلاح ولكن كلّ من فيهما ينجو من موت محقّق، فيُقال "هذا ولا أكثر": السيارتان غير مأسوف عليهما مادام ركّابهما قد نجوا من الهلاك الأكبر، كما يمكن أن يقال بالطبع عن مصيبة تحلّ بوطن أو أمّة كاملة تُصاب بما نحن مصابون به الآن بحروب طائفيّة ومذهبيّة وآيديولوجيّة نتقاتل فيها يوميّا، ويسقط جرّاءها الآلاف من شبابنا وأطفالنا ونسائنا، هذا عدا الخسائر الأخرى فنقول "هذا ولا أكثر".

نتقاتل بالكلاشينكوف و بكلّ أنواع السلاح، ولربّما بالكيمياوي في حالات معيّنة أفضل من أن نتقاتل بأسلحة أشدّ فتكا ونحمد اللّه على أنّنا لا نمتلك السلاح النووي كبعض الشعوب الأخرى ولم ندخل مثلها نادي الدول النوويّة العظمى- وربّ ضارة نافعة- وإلّا لكنّا أبدنا بعضنا البعض على آخرنا منذ مدّة.

وقد يذهب البعض منّا إلى أكثر من ذلك، فيقول بالفم الملآن وبعظمة اللّسان ما لا يمكن أنّ يُفسّر إلّا بالتخاذل والرضا بالهوان هذا: خسرنا فلسطين ولا أكثر: أن يقع احتلالنا كلّنا من المحيط إلى الخليج، مادامت كلّ عوامل الهشاشة والضعف التي كانت سببا في استعمارنا بالأمس موجودة فينا إلى الآن، بل لربّما لم تستفحل فينا كما هي مستفحلة فينا اليوم، ما يجعلنا فريسة سهلة ولقمة سائغة لكلّ من تسوّل لها نفسها من الدول العظمى باستعمارنا استعمارا استيطانيّا من جديد.

غير أنّ هذا ولا أكثر أحيانا تعجز عن تفسير بعض الكوارث التي تحلّ بنا رغم إيمان قائليها بالقضاء والقدر إيمان العجائز على طريقة أبي حامد الغزالي دون أن يكونوا وهم على مذهب السنّة والجماعة أبا عن جد وبالوراثة على علم بمقولة السنّة الشهيرة "كلّ ما أخطأك ما كان ليصيبك وكلّ ما أصابك ما كان ليخطئك" ولا خاضوا وهم من عامة الناس التي"لا تحصّل ولا تنظّر ولا تفكّر" على وصف أبي عثمان الجاحظ لحظة في حياتهم في قضايا الجبر والاختيار كما خاض فيها الفكر الإسلامي طويلا على اختلاف مذاهبه: سنّة وإباضيّة وشيعة ومعتزلة أو على طريقة المثقفين المعاصرين الذين هم على معرفة بالفلسفات الحديثة التي تطرّقت إلى إشكاليات الإرادة والمسؤولية والفعل الإنساني بما في ذلك الوجودية منها التي ترى في هذا العالم نصيبا من اللّامعقوليّة والعبثيّة التي لا يمكن تفسيرها بالنظريّات المطمئنة والمسكّنة لبؤس المنزلة الإنسانيّة.

هذا ما لمسته أكثر من مرّة في تعليل عامة الناس لبعض الأفعال والأحداث على اختلافها ودرجة خطورتها كما قلت، ولكن ما أثارني هذه المرّة هو تعليقات الناس على حادث أليم وفاجعة بأتمّ معنى الكلمة جدّت في الأيّام القليلة الماضية باصطدام سيّارتين تونسيّة وليبيّة على طريق يربط بين مدينتين تونسيتين متاخمتين لليبيا.

توفيت المرأة الليبيّة الحامل مع ابنها وبقي زوجها على قيد الحياة في حالة خطيرة تحت العناية الفائقة في المستشفى، كما توفيت المرأة التونسيّة طبيبة الأسنان مع ابنيها وبقي زوجها وطفلاهما الآخران: ولد وبنيّة على قيد الحياة دون أضرار بدنيّة فادحة ماعدا الأضرار النفسيّة بالطبع التي قد تفوق الأضرار البدنيّة حدّة وإيلاما وتنوء الجبال بحملها والناتجة عن فقدان المتوفّين رحمة اللّه عليهم.

هذه من المرّات القليلة التي لم أستمع فيها إلى"هذا ولا أكثر" لأنّه يبدو أنّ الكثير، أي المكروه الكبير قد حصل ولكنّي استمعت من أناس بسطاء لما يمكن أن يستفزّ العلماء: أحدهم تمنّى ويبدو أنّه مازال تحت تأثير الصدمة أن يلتحق الأحياء الناجون من الحادث جميعهم بالمتوفين أفضل من البقاء على قيد الحياة مكلومين، ما يعني أنّ"هذا" نسبيّة بقدر نسبيّة"الأكثر"، فالأكثر على حدّ اعتقاد هذا الرجل في هذه الحالة بتمنّي التحاق الأحياء بالأموات أفضل من"هذا"، ما جعل البعض يوافقه في ذلك بصريح العبارة أو بالصمت لولم يتدخّل شيخ في حزم وينهر الحاضرين ويدعوهم إلى أن يستغفروا اللّه لأنّ كلّ نفس ذائقة الموت ولكلّ أجله.

ليس السياق هنا للحديث عن حوادث السيّارات في تونس وليبيا وما بينهما حتّى وإن كانت على علاقة وثيقة بمسألة الجبر والاختيار العويصة. فحوادث السيّارات حرب قائمة الذات تحصد منذ سنوات الآلاف من الأرواح سنويّا وتسبّب في مآس لا تُحصى ولا تُعدّ وُتدمّر أعشاشا من الحبّ وتيتّم الكثير من الأطفال، هذا إذا لم تجهز عليهم وهم أجنّة في بطون أمّهاتهم ولم يروا النور بعد.

ولعلّ العالم العربي برمّته وكأنّ الحروب السياسيّة والطائفيّة لا تكفيه- حتّى وإنْ ليس لي إحصائيات تدعّم ما أقول- هو أكثر أصقاع الأرض تربة صالحة لتدور رحى حرب ضروس أخرى لا تقلّ ضراوة عن الأولى تتمثّل في حوادث السيّارات لفساد طرقاته أوّلا وبالذات وعدم تهيّئها لاستقبال كمّ هائل من العربات، ما انفك يتزايد من عام إلى آخر- وهذا على الأقلّ في تونس في جنوبها الذي تكثر فيه الطُرق التي تُسمّى بطرق الموت- ولعدم احترام السائقين فيه لقوانين المرور وللتوتّر الشديد الذي أصاب مجتمعاتنا في السنوات الأخيرة نتيجة التحوّلات العنيفة التي تشهدها وهذا يدخل في باب مسؤولية الإنسان وليس قضاء وقدرا مسلّطا عليه في قراءة مبسّطة ومتقاعسة عن التفسير والتأويل وتبعا لذلك عن إيجاد حلول.

الثقافة الشعبيّة التي أبدعت "هذا ولا أكثر" هي نفسها التي أبدعت أمثالا أخرى تحمّل الإنسان مسؤوليّة أفعاله دون الاتكاء على القضاء والقدر في كلّ شيء لتفسيرها ونسبتها إلى اللّه جهلا وتجنّيا عليه.

يخاطب مثل شعبي الإنسان قائلا "دير كوزك في الحدره وقول الحال حال اللّه" بمعنى إذا وضعت كوزا في منحدر من الأرض، فلا يمكن أن تعوّل على اللّه حتّى يمنعه من التدحرج والارتطام بالأرض والتهشّم لأنّ هناك قانون الجاذبيّة الذي لا مهرب منه ولا مفرّ من احترامه حتّى لا يحصل السوء.

"هذا ولا أكثر" قد تطمئن إلى حين ولكن لا ينبغى أن تمنع من محاولة الاحتياط إلى هذا والأكثر معا في الكثير من الحالات وإبعاد شبحهما أكثر ما يمكن. وفي ذلك شرف الإنسان وقيمته.