Atwasat

هل العالم يتّسع أم يضيق؟

محمد الجويلي الثلاثاء 11 أغسطس 2015, 10:19 صباحا
محمد الجويلي

هل العالم يتّسع أم يضيق أم أنّه لا يتّسع من جهة إلّا ليضيق من الجهة أخرى، بل قل لا يتّسع للأقلّية إلّا ليضيق على الأغلبيّة؟

تعود بي الذاكرة إلى أكثر من ثلاثين عامًا عندما عزمت ومجموعة من أصدقائي وزملائي في الدراسة الثانويّة، ولم نتخطّ من العمر ثمانية عشر ربيعًا على أن نشدّ الرحال إلى فرنسا في عطلتنا الصيفية. لم يكن الأمر يستدعي كاليوم تأشيرة دخول إلى التراب الفرنسي وأوروبا بصفة عامة يشقى المرء للحصول عليها بالامتثال للإجراءات البيروقراطيّة القاسية، علاوةً على توفير أموال باهظة ثمّ لا يحصل عليها في الغالب إذا كان اليوم في مثل سنّنا البارحة، فيعود من أمام السفارات الأوروبية منكسر الخاطر بخفّي حنين. كان يكفي فقط أن يكون بحوزة الشاب، بل الطفل الذي على عتبة الشباب مثلنا جواز سفر وثمن ما يقتطع به تذكرة سفر على متن الباخرة ذهابًا وإيابًا من تونس إلى مرسيليا لا يتجاوز ثمنها أكثر من خمسين دينارًا تونسيًّا، فحتّى الأموال التي من المفترض أن يتزوّد بها المرء في سفره لقضاء حاجاته لم نكن في حاجة إليها لأنّه يمكن الحصول عليها على عين المكان بمزاولة أعمال من نوع الأعمال التي يمارسها في العادة الطلبة في أوروبا، كالعمل في مقهى أو مطعم أو فندق أو في توزيع بطاقات الإشهار في الشوارع ومحطّات القطار والمترو، وغير ذلك من الأعمال التي تكفي عائداتها ليسدّ المرء رمقه ويبيت في الدور المخصّصة للشباب ويرفّه عن نفسه بدخول قاعات السينما والمسرح واشتراء الكتب إذا كان مغرمًا بالمطالعة.

قبلها بسنتين كان لا بدّ لي من الحصول على تأشيرة للدخول إلى ليبيا وكنت مضطرّا، وأنا الذي أسكن على مرمى حجر من الحدود التونسيّة الليبيّة ولا يفصلني عن العاصمة طرابلس أكثر من مئتي كيلومتر أن أولّي وجهي للقبلة وأذهب ستمئة كيلومتر إلى العاصمة تونس للحصول على هذه التأشيرة من القنصليّة الليبيّة، أي قطع مسافة أكثر من ألف كيلومتر بين ذهاب وإياب، وهي المسافة التي سأقطعها بحرًا بعد سنتين للوصول إلى فرنسا، وكان لا بدّ أن أحمد اللّه على ذلك لأنّ التأشيرة إلى ليبيا في تلك الفترة لم تكن سهلة والدخول إليها كان يخضع لإجراءات صارمة تشبه اليوم الإجراءات التي تتبعها دول الخليج في تنظيم دخول الأجانب إليها والخروج منها، ولم أحصل عليها إلّا لكوني استظهرت ببطاقتي المدرسيّة وبشهادة نجاحي في الامتحان وانتقالي إلى الصفّ القادم، وباعتباري كذلك من سكّان المناطق الحدوديّة التي كانت ليبيا تسهّل لهم إجراءات الدخول إليها.

في طرابلس التي كانت قبلة شباب العالم يأتونها من كلّ الأصقاع، بما في ذلك من أميركا الجنوبيّة هاربين من الدكتاتوريّة العسكريّة! ربطتني صداقات بشباب من المكسيك والأرجنتين كما ربطتني صداقة بشاب ليبي لم يقفل آنذاك العشرين من عمره. كان كلّما التقيت به يحدّثني عن زياراته المتكرّرة لأوروبا. أذكر أنّه سبق له أن زار وهو في تلك السنّ العديد من البلدان: إيطاليا واليونان ويوغسلافيا سابقًا والمجر وبولونيا وأوكرانيا وكان متيّمًا بمدينة لندن التي زارها أكثر من مرّة.

عندما أقارن بين الأمس واليوم ينتابني شعور بالسخط على الوضعيّة المزرية التي تردّى فيها شباب اليوم الذي حكمت عليه ظروف العصر أن يظلّ حبيسًا في رقعة جغرافيّة مسيّجة أشبه ما يكون بالغيتو يتنفّس هواءً واحدًا ويتكلّم لغة واحدة ويعاشر القوم أنفسهم، كالعصفور الذي قُطعت أجنحته ولربّما هذا يحدث لأوّل مرّة في التاريخ أن يمنع بشر من الترحال في أرض اللّه الواسعة، وإذا ما خطر للواحد منهم أن يتوّق إلى ما وراء البحار لفترة قصيرة حالمًا باكتشاف الغريب والجديد قبل أن يعود إلى وكره أو بالبقاء والأمل في حياة أفضل حتّى وإنْ كان واهمًا في ذلك ويتمرّد على القوانين السائدة المنظّمة للترحال والتنقّل من بلدان الجنوب إلى بلدان الشمال، فلا بدّ أن يخاطر بشبابه ويجازف بحياته في عمق البحر وهذا ما نشهده منذ سنوات بتسارع وتيرة الهجرة غير الشرعيّة- ومتى كانت الهجرة شرعيّة في يوم من الأيّام؟!- وما ينجرّ عنها من مآسٍ في إحدى أكثر التراجيديات إدانةً للإنسانيّة في التاريخ المعاصر.

هل العالم يتّسع أم يضيق أم أنّه لا يتّسع من جهة إلّا ليضيق من جهة أخرى، بل قل لا يتّسع للأقليّة إلّا ليضيق على الأغلبيّة؟ هذا أحد أهمّ الأسئلة التي تُطرح على الفكر الإنساني المعاصر ليس فقط في الإنتروبولوجيا والفلسفة، وإنّما كذلك في العلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة الأخرى؛ لأنّ انعكاساته متعدّدة تؤثّر على الجماعة كما على الفرد، وتتخطّى المستوى السوسيولوجي إلى المستوى النفسي. فقد يكون انخراط جزء من الشباب المنحدر من بلدان الجنوب في الحركات الإرهابيّة الهدّامة هو إحدى نتائج انغلاقهم في مجال بعينه وحبسهم فيه وتقييدهم بحدود، بل حواجز تقيّد تنقّلهم في المكان بشكل تعسّفي وقسري، بحيث أصبح البحر الأبيض المتوسّط لعلّه للمرّة الأولى في التاريخ بمثابة الجدار المائي العازل الذي يمنع شباب الجنوب من الانتقال إلى الضفّة الأخرى. وهنا ينبغي أن نفهم الحدود ليس في معناها المادي الجغرافي وإنّما كذلك في دلالتها الثقافيّة باعتبارها حاجزًا يمنع من الانفتاح على ثقافة الآخر ومعاشرته يوميّا أي يمنع الأنا، تبعًا لذلك من تنسيب [من النسبيّة] نظرتها إلى العالم و"حماية ذاتها- كما يقول بول ريكور- من انحرافاتها وذلك باستيعابها وتمثّلها بمقارنتها بغيرها ومن ثمّة الهيمنة عليها.

المفارقة التي تدعو إلى التفكير والتأمّل في حياة الإنسان في عصر ما بعد الحداثة أو التخمة الحداثيّة (Supermodernity) (1) تتمثّل في أنّ العالم يتّسع أكثر فأكثر في مجالين: مجال التواصل، لا سيّما الافتراضي، ومجال السوق، الذي يجنح نحو العولمة، وفيهما تنتفي كلّ الحدود الإثنيّة والثقافيّة والجغرافيّة: كون واسع يرحل فيه الإنسان دون تأشيرة ولا جواز سفر، ماعدا حساب على فيسبوك أو تويتر، في المجال الأوّل، ورأس مال في المجال الثاني.

وعلى العكس منهما تمامًا ينتصب مجال آخر يضيق شيئًا فشيئًا وأكثر فأكثر يمنع جزءًا من سكّان الكرة الأرضيّة في الجنوب من الانتقال إلى الجزء الآخر الشمالي، في حين يتيح لسكّان الشمال التنقّل بكلّ الحريّة في الجزء الجنوبي (2)، يحرّم على هذا ما يحلّله على الآخر وهو الظلم بعينه.

في عالم التخمة الحداثيّة حيث تتسارع المعارف وتكنولوجيات الاتصال ويتّسع سوق التبادل التجاري بشكل مذهل، فإنّ الهوّة ما انفكّت في الاتّساع بين عولمة دون حدود تسمح للبضائع والصور والرسائل بالتنقّل والترحال من غير قيد أو شرط، ومجال كوني مجزّأ ومقسّم تجد فيه الأيديولوجيات الأكثر انقساميّة: عنصريّة وقبليّة ودينيّة وطائفيّة وغيرها، أي كلّ الأيديولوجيات التي تجعل من الحدّ والحدود الفاصلة ثقافيًّا وإثنيًّا جوهرًا لوجودها ومرتعًا لها، أي بين صورة حاضرة افتراضيّة عظمى تتشكّل من طرق التنقّل المدهشة عبر العالم ووسائل الاتصال الإلكتروني الأكثر حداثةً وقوّةً تستوعب الكرة الأرضيّة برمّتها في شبكاتها المعقّدة وتعطي الانطباع عبر الصور النمطيّة التي تبثّها على أنّ العالم أصبح وحدة متجانسة أكثر من أيّ وقت مضى، وأجزاؤه كلّها تقترب من بعضها البعض أكثر فأكثر ويومًا بعد يوم والحاضرة الحقيقيّة المنقسمة على ذاتها والتي تزداد انقسامًا من يوم إلى آخر بين جنوب وشمال وبين مدينة وريف وفي المدينة ذاتها بين الأحياء الغنيّة والفقيرة وتتكاثر فيها الحدود والحواجز من كلّ نوع.

ينبغي كما يقول مارك أوجيه في كتابه «إنتروبولوجيا التنقّل» أن نعيد التفكير في الحدود، هذا المعطى الحقيقي الذي ما انفككنا نتجاهله وما انفك يفرض علينا نفسه بإلحاح [لأنّه مصدر كلّ الشرور والموانع والإقصاء] لأنّ إعادة التفكير فيها هو الشرط الوحيد الذي يمكّننا من محاولة فهم المتناقضات التي تسم التاريخ المعاصر للإنسانيّة (3).

هذا على المستوى الكوني أمّا على المستوى العربي والإسلامي فالطامة أكبر. فبعد أن نجحنا، ولعلّه نجاحنا الوحيد، في أنّ نسيّج أنفسنا بسياج سميك أصبحنا حبيسين في مجاله وحصرناها في أيديولوجيات تزيدنا انغلاقًا على انغلاق حول ذواتنا وعزل أنفسنا عن العالم وتقاعدنا منذ زمن طويل على المشاركة في صنع الحاضر البشري ومستقبله والانتماء إلى الأمّة الإنسانيّة، لم يكفنا هذا النجاح والرضا بتجزئتنا القديمة فزدناها في السنوات الأخيرة تجزئةً على تجزئة وحدودًا في ما لم يعد في الأصل يحتمل حدّا وفصلاً: بين طوائف ومذاهب وقبائل ومناطق كانت بالأمس القريب تحمل همًّا واحدًا وحلمًا واحدًا وعلمًا واحدًا.
_____________________________________
1- المصطلح الفرنسي هو(surmodernité) وهكذا يُترجم إلى الإنجليزية. معنى (sur) الفرنسي الذي يعادله حرفيًا حرف الجرّ "على" ينبغي أن نفهمه في معنى كلمة (over) الإنجليزية التي تحيل على معنى الوفرة الزائدة على الحدّ، أي وفرة العلل التي تجعل من تحليل الظواهر مسألةً غاية من التعقيد.
2- يشير الإنتروبولوجي الفرنسي مارك أوجيه (Marc Augé) إلى المفارقات والتناقضات التي تسم السياسات الغربيّة وتميّز بما يُسمّى بالعولمة ويعطي مثال الولايات المتحدة الأميركيّة التي تشجّع على قيام سوق أميركيّة قارية موحّدة ولكنّها تقيم جدارًا عازلاً على حدودها مع المكسيك. انظر كتابه: Pour une anthropologie de la mobilité,Paris,Manuels Payot,p.85 الأمر ينسحب كذلك على الاتحاد الأوروبي الذي يقيم شراكةً مع دول جنوب المتوسط تخدم مصالحه الاقتصاديّة ويحوّل البحر الأبيض المتوسط إلى عازل بينه وبينها.
3- المرجع نفسه. ص.15