Atwasat

في سخط النساء على الرجال: هاشتاغ الجدّات وهاشتاغ الحفيدات!

محمد الجويلي الثلاثاء 04 أغسطس 2015, 09:02 صباحا
محمد الجويلي

لا يسمح السياق هنا بتعريف "الهاشتاغ" (Hashtag)، فمعرفته متاحة على الانترنات ويكفي للعثور على تعريف مفصّل له الرجوع إلى محرّك "غوغل" على سبيل المثال. فما يهمّنا هو الهاشتاغ الذي أطلقته الأسبوع الماضي بعض النساء في السعوديّة والإمارات يندّدن فيه بالرجل ويدعون فيه إلى القضاء عليه والذي سرعان ما لاقى تعاطفا من العديد من نساء العالم العربي مرورا ببلاد الشام ومصر وصولا إلى المحيط يوحّدهن في ذلك الإحساس بالاضطهاد من الرجل. هذا الهاشتاغ الذي ملأ الدنيا وشغل الناس صار في يوم واحد الأكثر تداولا على التويتر في العالم بأسره هو ظاهرة سوسيولوجيّة جديرة بالعناية والدرس لأنّه يترجم عن نزعة أنثوية (feminism) شعبيّة وغير عالمة تنتصر للمرأة على حساب الرجل في مبالغة ومغالاة ولكن بعفويّة هي أبعد ما يكون عن ثقافة النخبة النسويّة المثقفة التي عرفها الفكر المعاصر مثلا لدى الفرنسّية "سيمون دي بوفوار" (Simon de Beauvoir) أو حتّى لدى العربيّة المصريّة نوال السعداوي في كتاباتها المتعدّدة مع اختلاف المرأتين.

    "طالبت النساء بإبادة الرجال... حجّتهنّ في ذلك...أنّه لم يعد ثمّة رجال بل ذكور"

في هذه التغريدة طالبت النساء بإبادة الرجال والقضاء عليهم، هكذا بكلّ بساطة، حجّتهنّ في ذلك التي لا تخلو من سخرية أنّه لم يعد ثمّة رجال بل ذكور وشتّان بين الرجال والذكور بالطبع. ومن البديهي أن تستفزّ هذه الدعوة الرجال فيردّوا الصاع صاعين، بل ينبري البعض من النسوة أنفسهنّ للدفاع عن الرجل الذي دونه على حدّ اعتقادهنّ لا يهنأ للمرأة بال ولا تعرف حياتها معنى للسعادة مع التذكير بأنّه قبل أن يكون زوجا أو حبيبا، فهو الأب، والأخ، والإبن أي الصدر الحنون(1)

لأوّل وهلة تبدو هذه الظاهرة غريبة جديدة وصادمة لبعض النفوس والعقول ولا عهد للعربيّات بها من قبل. ولكن المتمعّن في التراث النسوي العربي التقليدي، تراث الجدّات من المحيط إلى الخليج من خلال حكاياتهنّ الخرافيّة يدرك أنّ جدّات الأمس قد سبقن عبر القرون حفيداتهن في مطلع القرن الواحد والعشرين إلى "الهشتاغ" المندّد بالرجال والملوّث لسمعتهم مع فارقين وحيدين: الأوّل يتمثّل في تغيّر وسيلة الاتصال من التواصل الشفوي من اللّسان إلى الأذن إلى التواصل الالكتروني عبر شاشات الكمبيوتر وملامسه والثاني في طبيعة الخطاب. فما تقوله نساء اليوم رغم ما فيه من مبالغةـ مفهومة ويمكن تفسيرها- أنّه لم يعد ثمّة رجال، بل ذكور فحسب بطريقة مباشرة تحريضيّة غير فنّية، حتّى لا نقول جماليّة، قد قالته جدّاتهن عبر العصور ولكن من خلال الإبداع الذي يحلّق بعيدا في عالم الجمال بأجنحة الخيال.

    "تعمد المرأة العربيّة التقليديّة بصفة لاواعية إلى العبث بالرجل في حكاياتها الموجّهة إلى طفلها أو حفيدها"

تعمد المرأة العربيّة التقليديّة بصفة لاواعية إلى العبث بالرجل في حكاياتها الموجّهة إلى طفلها أو حفيدها والتي وقع توارثها جيلا بعد جيل بالسخرية منه وبتصويره كاريكاتوريا في مظهر مزر. هناك أمثلة كثيرة على ذلك نقتصر على البعض منها.

في حكاية من الجنوب التونسي تُعرف بـ"حبحب رمّان" ينخدع الأب بهناء زائف ويجبر زوجته الحامل على أن ترحل معه للعيش مع خالة هي في الحقيقة غولة متنكّرة حذّرته زوجته منها، فأودى بعائلته إلى التهلكة، بحيث افترسته الغولة هو وزوجته ولم تنج إلّا البنيّة ولمّا همّت بافتراسه تركت له حرّية الاختيار لتحديد ما تستهلّ به أكله من جسده "منين نبدا ناكلك يا كلب يا ابن الكلب" قال لها "كوليني من لحيْتي، ما خذيتش رأي مريْتي"(2) ومن الواضح أنّ من يأكل الرجل من لحيته، واللحية دلالة على الرجولة أي من يحطّ من قيمته ورجولته تماما مثلما يفعل نساء الهاشتاغ اليوم ليست الغولة وإنّما زوجته التي حرمها بغبائه وطمعه من أن تتمتّع بأمومتها. في حكاية أخرى توجد بروايات متعدّدة في تونس تُعرف بالحمامة والسلطان وبالطاووس تعاقب المرأة الرجل في سخرية قاتلة ومدمّرة على جشعه وأكله لتفاحة الحبالة التي أغدقها على زوجته العاقر متسوّل صاحب بركة، فيحبل الزوج من قدمه التي بدأت في التورّم شيئا فشيئا وصار يجرّها متثاقلا وقد أصبحت كالجرّة، ما جعل زوجته المسكينة تخفيه عن أعين الناس حتي لا يفتضح أمره بعد أن صار ذكرا "حُبلى" يجلب لها العار والاستهزاء من جاراتها ومعارفها. ولم يكن هذان الرجلان أحسن حالا من رجل آخر في حكاية خرافيّة أخرى تُعرف دائما في تونس بـ"السبعة حويتات" ولها روايات مشابهة في الجزائر والمغرب وبلاد الشام تتحدّث عن سبع بنات توفيت أمّهن وتزوج والدهنّ امرأة شرّيرة أجبرته على التخلّص منهنّ، فقادهنّ إلى بئر وأسقط طربوشه فيه وقال لهنّ من تحبّني منكنّ تنزل إلى قاع البئر وتأتيني به فأجبنه بصوت واحد "كلّنا نحبّك يا بابا"، فأنزلهنّ واحدة بعد الأخرى وانصرف عائدا إلى زوجته بعد أن تركهنّ لحالهنّ في قاعه يتقوّتن من الدود والحشائش إلى أن فطنت لوجودهنّ غولة عطفت عليهن وربّتهن ووجدن في حضنها من العطف ما لم يجدنه في والدهنّ.

غير أنّ الحكايات التي تصوّر الرجل زوجا أو أبا في التراث الشعبي العربي على هذا النحو لا تُحصى ولا تُعدّ وقد يعجز مؤلَّف كامل عن الإحاطة بها جمعا وتحليلا. كنت قد اهتممت في كتابي "من الحطب إلى الذهب"(3) بمقارنة انتروبولوجيّة بين حكاية جمعها عبد الكريم الجهيمان من التراث الشفوي السعودي وأصدرها في مدوّنته الشهيرة "أساطير شعبيّة من قلب الجزيرة العربيّة"(4) وحكاية فرنسيّة من حكايات "شارل بيرو" معروفة بالإصبع الصغير (Le petit poucet). في هذه الحكاية التي صدرت بعنوان "الغول والإخوان الثلاثة" في هذه المدوّنة يقرّر الزوج الحطّاب الفقير أن يتخلّص من أبنائه في شعاب أحد الوديان شعاره في ذلك "تحت اللّه يا زرع اللّه." (5) ويفاتح زوجته في ذلك، فتجزع وتستنكر وترفض ولكن لم يُجدِ ذلك نفعا. نستمع في هذه الحكاية إلى صوت الأنثى متخفّيا في ثنايا السرد يرسم الزوجة مغلوبة على أمرها، لا حول ولا قوّة لها تنظر إلى أبنائها يُقادون إلى هلاك محقّق وكأنّه قدر مسلّط عليهم، فتكتفي بذرف الدموع "وبكت الوالدة بكاء مرّا ولكنّ بكاءها لم يغيّر من الأمر شيئا في الذهاب بالأولاد إلى الخلاء" غاضبة وساخطة على زوجها وهي تذكّره بما قالته له "وقد كنت قد قلت لك لا تيأس فإنّ مع العسر يسرا وبعد الضيق فرجا.!!." فلا تغفر له عدم أخذ كلامها ونصيحتها مأخذ الجدّ، لا سيما وأنّه كان من المفترض وهو الرجل ألاّ يدبّ اليأس إلى قلبه بمثل هذه السرعة في موضوع ليس ثمة ما هو أكثر أهميّة وحساسيّة منه في حياة أب هو مصير أبنائه ومستقبلهم، بل إنّ هذا الصوت لا يفوّت فرصة من أجل تبرئتها وتوريط زوجها وإظهاره بمظهر الأناني الذي لا يفكّر في الحقيقة إلاّ في نفسه ولا يهمّه في مصير شريكة حياته نفسها والدة أبنائه فما بالك بالأبناء أنفسهم. فحتّى عندما فطن الأطفال إلى خديعة الأب وغدره وعادوا إلى البيت تقودهم حبّات الحصى التي نثرها الشقيق الأصغر صفير في طريقهم إلى الوادي قرّر الزوج بمجرّد أن نفد الطعام في البيت أن يعيد الكرّة ويذهب بالأطفال بعيدا في الوادي وفي شعابه "بكت الأم وقالت اتركهم عندنا فرزقهم على اللّه وأنا مستعدّة أن أترك نصيبي من الطعام لهم.. فقال الأب وإذا تركت طعامك لأولادك عرضت نفسك للمرض والموت... وإذا متّ شقيت أنا بالأولاد وحدي... ولكن لا بدّ أن نتخلّص منهم!!".

ينسب الراوي الأنثوي في الأصل الكلام تقية إلى الزوج وزوجته وإن كان الكلام كلامه والموقف موقفه وهو تصوير الأب في صورة سوداوية قاتمة أنانيّا لا تهمّه إلاّ راحته فقط. فحتّى موت زوجته لا يهمّه إلاّ من زاوية مصلحته أن يشقى بتربية الأولاد وحده والنقطتان الاستفهاميتان التعجّبيتان اللّتان وضعهما الجهيمان وكأنّ واحدة لا تكفيه واللّتان لا توجدان بالطبع في الحكاية الشفوية الأصلية، إنّما تدلّ على انخراط الفولكلوري السعودي في التنديد بالرجل وفضحه.

    "الرجل غول، بل الغيلان أرحم منه: هذا هو رسمه في هاشتاغ الجدّات العربيات"

الرجل غول، بل الغيلان أرحم منه: هذا هو رسمه في هاشتاغ الجدّات العربيات، الخليجيات والمشرقيات والمغربيات على حدّ السواء، فلا غرابة إذن أن يكون على هذا النحو في هاشتاغ الحفيدات مادامت أسباب الغضب منه مازالت قائمة. ثمّة بالطبع اختلافات بين الليلة والبارحة أهمّها يتمثّل في أنّ الجدّات كنّ قديما منقطعات عن العالم، بينما نساء العرب اليوم يعشن في عصر ثورة التواصل الالكترونيّة ويمتطين أدواته للتعبير عن سخطهن ورفضهّن لهذه المنزلة التي يعتقدن أنّ الرجل هو المسؤول الأوّل عنها. الحفيدات لم يعدن باكيات كجدّاتهنّ ولكنّهن ظللن مثلهنّ ضاحكات، ساخرات، ساخطات ولكن غير مبدعات على خلافهن وحتّى لا نقع في التعميم نقول على الأقلّ من خلال "هاشتاغهنّ"!

_____________________
1- يُستحسن الرجوع إلى الانترات ولتويتر لمعرفة محتوى هذا الخطاب وما أثاره من جدل

2- أي استهلّي يا غولة بافتراسي من لحيتي قبل أعضاء جسدي الأخرى لانّني لم أعمل بنصيحة زوجتي "مريتي"، تصغير عاطفي دلالة على المحبّة ولكن بعد فوات الأوان.

3- محمد الجويلي، من الحطب إلى الذهب، مقارنة انتروبولوجيّة بين حكاية سعوديّة وحكاية فرنسيّة من التراث الشفوي، وزارة التعليم العالي، الملحقية الثقافية السعوديّة في فرنسا، منشورات ضفاف،الرياض، 2014

4- صادر في أربعة أجزاء، الرياض، دار أشبال العرب، الطبعة الثالثة،1980

5- انظر في الجزء الرابع من المصدرنفسه الحكاية كاملة، ص 55-68