Atwasat

(ترحال) اللّباس والوحي: الغنوشي البورقيبي وألف ليلة وليلة التونسية الليبيّة

محمد الجويلي الإثنين 20 يوليو 2015, 11:06 صباحا
محمد الجويلي

سلام حتّى مطلع الفجر.... منذ فجر التاريخ، وليس فجر ليبيا وتونس فقط، ومنذ بدء الخليقة ومنذ أن انتبه الإنسان إلى ضرورة ستر سوأته للتميّز عن الحيوانات الأخرى في البداية بأن يخصف عليها من أوراق الشج، وبعد ذلك بأن يسترها بجلود الحيوان في مرحلة الصيد الغابرة ثمّ بعد ذلك بدهر مع تطوّر مهاراته التقنيّة بخرقة من قماش كان للّباس دوما علاقة بالسياسة والدين وبالخطايا الصغرى والكبرى للإنسانيّة. غير أنّ اللباس الذي ابتكره البشر في الأصل لستر عوراتهم الجسديّة ووقايتهم من اعتداء الطبيعة سرعان ما تحوّل إلى أداة للكشف عن عوراتهم الأخرى وسوءاتهم الخلقيّة، حين أصبح علامة على التميز الاجتماعي والطبقي والديني والطائفي والآيديولوجي، أي حين صاريُوظّفّ، تماما مثل الدين، لغاية لم يُخلق لها في الأصل وتبعا لذلك خيرما يُعبّر به عن الانقساميّة في الوجود الإنساني.

في السنوات الأخيرة العجاف من التاريخ العربي جُرّ اللباس جرّا إلى حلبة الصراع السياسي والآيديولوجي وصار خير ما يكشف عن التشظّي الهُووي العنيف الذي تعيشه بعض المجتمعات العربيّة. في تونس، مثلا، كان يكفي للمشاهد أن يجول بنظره في عربة قطار أوأحد شوارع المدن الكبرى أو يتابع بعض البرامج التلفزيونيّة حتّى يلاحظ هذا التمزّق في اللباس: جلابييب ودشداشات[ أستعيرها من اللهجة العراقيّة] أفغانية وخمارات ذات لون واحد أو مختلفة الألوان وتنورات قصيرة وتبابين في سيقان عارية وسراويل دجينز ملتصقة بأجساد رجال ونساء على حدّ السواء في خليط قد يبدو للبعض علامة كذلك على التنوّع والاختلاف بقدر دلالته على التشرذم والفرقة: واحد يتوجّه إلى الشرق والآخر إلى الغرب وآخر آخر في منزلة بين المنزلتين.

غير أنّ اللباس في علاقته بالهويّة والآيديولوجيا والأصالة والمعاصرة، وكلّ تلك القضايا التي خاض فيها مصلحو القرن التاسع عشر ومن بعدهم مفكرو القرن العشرين غالي شكري والصادق النيهوم ومحمد عمارة ومحمد عابد الجابري، قد شاء له القدر أن يجُرّ في تونس من الحافلات والشوارع والساحات والجامعات إلى جامع الزيتونة المعمور في ليلة ليست ككلّ الليالي، إنّها ليلة خير من ألف شهر.

في السنوات الأخيرة العجاف من التاريخ العربي جُرّ اللباس جرّا إلى حلبة الصراع السياسي والآيديولوجي.

نزل الوحي على بعض رجال الحكومة وحزب نداء تونس الحاكم فارتدوا جبابا تقليديّة من النوع الأبيض الذي يميل إلى الصفرة التي يرتديها في العادة فقهاء الحواضر التونسيّة ومفتي الجمهوريّة، خاصة في الأعياد الدينيّة. كان، لربّما، لهذه الطلعة الجُبائبيّة البهيّة أن تمرّ مرور الكرام لو لم يلتحق راشد الغنوشي بالجماعة، أو يلتحقوا به في الجامع، يرتدي بذلة إفرنجيّة هي بذلته العاديّة فخلط كلّ الأوراق وضبّب كل شفرات الفهم والتأويل الذي قد يستعصى لأوّل وهلة على كبار السيميائيين و أمهر قرّاء العلامات المشهود لهم بذلك من تلامذة"رولان بارت" القدامى والمحدثين. صارت الصورة مشوّشة أمام الناظرين، ولا بد لمن أن يريد أن يفهم أن يكون، كما يقول رولان بارت نفسه، متحلّيا بالصبر كمن يدير زرّ مذياع يمنة ويسرة، فيعترضه خليط من الأصوات المتنافرة والمتداخلة، فلا يجزع ولا يضجر مهما طال الوقت حتّى يعثر على رسالة أو معنى أو صوت ما يطمئنّ إليه، حينئذ يوقف الزّر وينصت بانتباه ليفهم ويستأنس ويستمتع.

الالتباس الذي حدث في الأذهان وأثار الكثير من التونسيين وبعث فيهم حيرة السؤال مردّه الانقلاب الذي حدث في رحاب الجامع. مَنْ كان منتظرا منه أن يأتي بزيّ تقليدي في سحنة رجل الدين جاء في زيّ دنيويّ علماني وكونيّ رحب ومن كان منتظرا منه أن يأتي في زيّ علماني جاء في جبّة الفقيه الضيّقة. وهنا لا بدّ أن تُثار الأسئلة: أيّهما التقدّمي وأيّهما الرجعي؟ ومَنِ الحداثي؟ ومَنْ هو القَرْوَسْطي ؟ ومن هو العلماني الذي يريد أن ينأى بالدين عن السياسة ومن هو الذي يريد أن يقحمه فيها حتّى لليلة واحدة"سلام هي حتّى مطلع الفجر"! ومن هو الجدلي التاريخي؟ ومن هو الثبوتي والوثوقي؟.

نعم، للجبّة علاقة بالجدليّة والتاريخ ووحدة الأضداد ونفي النفي والمسألة جدّية وليست من باب المُزحة. لم يفطن البعض من زعماء نداء تونس من قدامى اليساريين عشّاق الصيرورة والتغيّر الذين من المفترض أنّهم رضعوا المادية الجدليّة التاريخية في شبابهم ومنذ الثانويّة أنّهم بارتدائهم لجبّة"ولاية الفقيه" إنّما يعيدون، دون وعي منهم وسابق إضمار،إنتاج الماضي القريب ويتبعون السنّة التي ورثها عن بورقيبة ابن علي ووزراؤه وحاشيته وأّنهم متشبثون بصور نمطيّة ملّها وسئمها الناس لأنها تحيل مباشرة على عهد قديم تجاوزته الأحداث، فكان عليهم أن يبحثوا عن بديل ثوري للجبّة يتلاءم مع طبيعة المرحلة الديمقراطيّة، كأن يأتي الواحد منهم إلى الجامع وعلى رأسه شاشية حمراء أندلسيّة و، لِما لا، سوداء طرابلسيّة ويرتدي برنسا أبيض فوق الجبّة مع قميص أبيض كذلك وربطة عنق لا يهمّ لونها باستثناء البفسجيّة البنعلويّة، وهكذا يزاوج بين الأصالة والحداثة ويعطي الانطباع على الأقّل في المظهر- ولا يهمّ الجوهر- أنّه يستوحي كسوته وألوانها من"الربيع العربي" الزاهر، ما شاء اللّه، بكلّ الألوان والأحزان.

. مَنْ كان منتظرا منه أن يأتي بزيّ تقليدي في سحنة رجل الدين جاء في زيّ دنيويّ علماني.

غير أنّ من ظهر في الجامع بمظهر المنسجم مع الجديد والراغب في القطع مع الماضي وبثوب مدني هو الغنوشي دون أن يضطرّ بالطبع إلى أن يرتدي ربطة عنق ويبالغ في ليبراليته ومدنيته، فهو مثل"تسيبراز" رئيس الوزراء اليوناني ووزير ماليته المستقيل وأعضاء حزبه"تيريزا" من الرجال ورفاقهم من"البوديموس" الأسباني الذين تُطلق عليهم ميركل ووسائل إعلامها"اليساريون الراديكاليون" ينبذ ربطة العنق لأنّها تحيل على التبرجز ولعلّها على الصليب. الفرق فقط بين الغنوشي و"تزيبراس" اليساري رغم رفضهما لربطة العنق يتمثّل في أنّ الأوّل يبدو أنّه قد تمثّل المادية الجدليّة التاريخيّة جيّدا، فعمل، رغم عدائه للماركسية، بمقولة ماركس الشهيرة"إنّ الإنسانيّة لا تطرح المشاكل إلّا إذا كانت قادرة على حلّها" في حين أنّ الثاني لم يعمل بها، بل عمل بعكسها تماما، فطرح من المشاكل والقضايا ما استعصى عليه حلّها، فوعد ناخبيه بمواجهة بطش الرأسمالية المتوحشة وصلف الصيارفة والدائنين الأوروبيين ولكن عندما حان وقت العمل و"البراكسيس"شعر بأنّ عاقبة التمادي في مواجهة هؤلاء ستكون وخيمة فتراجع ورضخ، وهذا ما يسمّى في الأدب الشعبي بـ"الشجاعة التي يكون الذلّ عاقبتها " وهي أسوأ أنواع الشجاعة، وتعرف في الأدبيات الماركسيّة بسلوكيات الطفولية اليساريّة.

لم يكتف الشيخ بنفي النفي في ليلة القدر بعد أن صار يلعب وحده في الميدان يحيط به الأطفال فقط، في غياب الشيخ الآخر السبسي الذي يبدو أنّه لم يعد في حاجة إلى مشاطرته اللعب بعد أن وصل إلى مرحلة الترف الخلدوني بدخوله قصر قرطاج، فتحوّل من الغد في نفس البذلة وبنفس المظهر ليلقي خطبة عصماء بنفس المناسبة في الفطور الذي نظّمه على شرف الأخوّة التونسية الليبيّة بحضورإخوان ليبيين بعضهم جاء من ليبيا والآخر مقيم في تونس حضره تونسيون وليبيون من انتماءات سياسيّة مختلفة، والعهدة على من حضر، يدعو فيها، على عكس الشيخ صادق الغرياني مفتي طرابلس، الليبيين صراحة إلى القبول بنص المصالحة التي وُقِّع عليها بإشراف من الأمم المتّحدة في مدينة الصخيرات المغربيّة بالأحرف الأولى في غياب المؤتمر الوطني، حجّته في ذلك"أنّ الكبير ينبغي أن يتنازل للصغير" لحقن دماء الليبيين و الذهاب سريعا لبناء الدولة الليبيّة الحديثة الحاضنة لليبيين جميعا على اختلاف مشاربهم. ما أجمله هذا الكلام، قال لي مثقف ليبي ليبرالي مناوئ لفجر ليبيا متعاطف مع محمود جبريل ولعلّه من حزبه!

خلط الغنوشي الأوراق في ليلتين متتابعتين كألفي شهر.هل الرجل إخواني المذهب؟ وإذا كان ذلك كذلك، فلماذا ينفرد، على عكس إخوان ليبيا ومصر، بهذا الموقف ويغرّد خارج السرب؟ هل هو مدنّي فعلا ويجرّ الإخوان المسلمين إلى القبول بمدنّية الدولة في ليبيا بعد أن قبلها في تونس؟ أمّا أنّ الرجل استراتيجي كبير يمتلك دهاء حكّام الفرس وهو الذي يشاطرهم إلى اليوم، على الأقّل مثل تسيبراس الإغريقي، زهدهم في ربطة العنق ولا ينبغي أن ننسى أنّه كان مفتونا بثورتهم في بداياتها ولعلّه استلهم منهم فنّهم في التقية والكتمان والمناورة والمراوغة والمماطلة وربح الوقت لتحقيق حلم الإخوان المسلمين القديم؟
الأسئلة لا تنتهي عندما يتعلّق الأمر بالغنوشي وينبغي أن يتوفّر للمرء عبقريّة كلّ من نعوم تشومسكي" و"رولان بارت" و"جاك دريدا" لمحاولة فهم الرسائل التي يطلقها الرجل باللباس والكلمة والصمت، وفكّ شفراتها واستنطاق مدلولاتها. ولكن بالعودة إلى"فطور الأخوّة التونسيّة الليبيّة" القدري الذي لم نر، حسب الصور التي وقع تداولها- واللّه أعلم- ليبيّا واحدا يلبس حولي عمر المختار وشاشيته السوداء اللّذين تخلّى عنهما القذافي منذ سنوات لصالح الدشداشة الإفريقيّة ولا حتّى"الجرد "الليبي الذي يُسمّى في الجنوب التونسي بالوًزْرة ولربّما لا لوم على اللّيبيين الحاضرين على مائدة الفطور التاريخي في ذلك فقد جرده القذافي من كثرة ما لبسه ولم يعد فيه ما يمكن التدثّر به!

خلط الغنوشي الأوراق في ليلتين متتابعتين كألفي شهر.

قد يذهب بنا التأويل بعيدا ليضعنا في معمعة"هيرمنوطوقيا" بول ريكور" ذاتها. فحسب ما قاله عبد الفتاح مورو أحد مؤسّسي التيار الإسلامي، العضد الأيمن لرئيس حركة النهضة راشد الغنوشي والأيسر لرئيس البرلمان الدستوري البورقيبي محمد الناصرالذي عرفه العالم كلّه ملازما دائما لجبّته وعمامته التونسيّة ولا يرتديها فقط في الأعياد الدينيّة يبدو أنّ أمرا"سرياليّا" يحدث في حركة النهضة يشبه الحلم .لقد أطنب مورو في تعداد فضائل الليبيين على تونس من واجب الاعتراف للأخوة بالجميل، فليبيا على، حدّ قوله، أهدت إلى تونس الكثير من الخير وهذا أمرليس جديدا، فالخير المتبادل بين الشعبين يعرفانه جيّدا قبل معرفة المؤرّخين والمثقفين به، ولكن المفاجئ حقّا والمثير للدهشّة ولربّما الصدمة لدى من قلوبهم على اليسار كما من قلوبهم على اليمين على حدّ السواء هو إقراره بأنّ بورقيبية المصراتي العلماني هو هديّة ليبيّة لتونس كذلك ولربّما كاد أن يذهب إلى أبعد من ذلك بالقول"أنّه أجمل هديّة قدّمتها ليبيا لتونس" لو لم يلجم فاه في آخر لحظة.

هلّ أنّ الشيخ مورو يهذي أم يعي ما يقول؟ سؤال إشكالي خطير الإجابة عليه ستكون دون شكّ أخطر منه.غير أنّه يبدو أنّ الرجل على حقّ، فالغنوشي هو بورقيبي إلى حدّ النخاع ولا بدّ له من أن يعتذر اليوم لبورقيبة على رفضه الترحّم عليه يوم وفاته، فهو إن لم يكن خير وريث للرجل الذي حكم عليه في يوم من الأيّام بحبل المشنقة- ولم ينقذه منه إلّا المرحوم عبد اللّه العبعاب رفيق بورقيبة في الأحضان الليبيّة أيّام كانا شريدين ومطاردين من الاستعمار- في مستوى المضمون، فعلى الأقلّ في مستوى الشكل والتكتيك.إنّه البورقيبي الوحيد من اللّاعبين السياسيين الكبار في تونس الذي مازال على قيد الحياة بعد انعزال الباجي في قصر قرطاج و انشغاله ببروتوكولات الرئاسة وتقاعده من رئاسة حزب نداء تونس.الرجل، دون شكّ، ينظر إلى بعيد ويقرأ جيّدا موازين القوى الإقليميّة والدوليّة ويتّبع سنّته في اعتماد سياسة المراحل، سياسة الخطوة خطوة. إلى أين يريد أن يذهب الغنوشي بالإخوان والرفاق والخلّان وبنا جميعا ليس فقط في تونس وليبيا وإنّما كذلك في العالم العربي والإسلامي برمّته؟
أجيب بجملة اسميّة مفيدة يعتقد أحد أعمدة النقد في العالم العربي، أستاذ الأجيال توفيق بكار أنّها تختزل كلّ عبقرية السارد العربي"اللّه أعلم"، اللّه أعلم بما في الصدور.