Atwasat

عفاريت..

سعاد سالم السبت 18 يوليو 2015, 06:16 مساء
سعاد سالم

كنت تقريبًا في العاشرة أركض مع إخوتي بمسدسات وهمية نقلد أفلام الحرب والاقتتال.. وربما متأثرين بالأخبار، ففي تلك الظهيرة من يوم جمعة بالتأكيد وفي ركضي المحموم هربًا من رصاصات الأصوات التي نصنعها.. توقفت كما لو كان لدي مكابح وهمد صوتي تمامًا وتجمَّدتُ هناك على حافة الغابة، حيث وجدت نفسي أواجه الإسفلت ورتلاً من سيارات الجيب العسكرية كالتي كانت تمرُّ في أعياد الفاتح من أمام زقاق بيت جدتي في السوالم التي كانت توقظني لكي أتفرج عليها وعلى بهجة الناس.. حسنًا.. مثل تلك السيارات المهيبة المطلية بالأخضر الداكن يجلس في مؤخرتها جنود ببذلاتهم الخضراء وخوذهم التي تشابه خوذ راكبي الدراجات النارية تلك المقعرة ككقِدر وفي أسفلها حزام صغير يثبتها إلى الذقن.. ممسكين بأسلحتهم وساكتين تمامًا.

تمر أمامي أنا فقط بلا زينات ولا تصفيق ولا زغاريد ولا جمهور، حيث أنا وغابات تاجوراء.. راقبت مذهولة، وربما متذكرة الحرب الحقيقية التي نستمع إلى أخبارها في قيلولة والدي.. أينما تذهب تلك السيارات فهي تتجه شرقًا.. في صمت طويل أو هكذا هُيئ لي.. واصلت مراقبة هذا المرور المفاجئ حتى آخر سيارة حينما التقت عيناي مباشرة بعيني واحد من هؤلاء الجنود لفترة خلتها دهرًا.. ولم أستجب لنداءات إخوتي حتى اختفى الطابور الغامق.

«عدت مثقلة بتلك النظرة التي لم أفهم كيف أنني مازلت للآن أذكرها جيدا جدا.»

وعدت مثقلة بتلك النظرة التي لم أفهم كيف أنني مازلت للآن أذكرها جيدًا جدًّا.. وأذكر بعض ملامح ذاك الجندي الذي كان حزينًا وفي نظرته نوعٌ من التأنيب.. أو اللوم أو الأسى. لم أفهم. وطبعًا لم أعرف أبدًا إن كان عاد أم قضى في تلك الحرب بين الجارتين.. ليبيا ومصر. وكجيلي الذي نشأ وعاش فقط عهد القذافي كانت العسكرية والجنود والضباط سيرًا وقصصًا تعج بها البيوت والأزقة والأحياء.. قصص هروب وملاحقة.. قصص تنسيب للكليات العسكرية وقصص حب لصديقات مع ضباط.. وخطوبات انتهت من موتى حربٍ ما في مكان ما.. أو شبهة قتل ضابط كبير قريب وزوج بنت جيراننا.

تفاصيل وأوجاع لا تنتهي.. وظل دائمًا في داخلي للجنود وللعسكريين بالرتب الصغيرة إعجابٌ وتقديرٌ. فالحرب على الدوام كانت شيئًا مرعبًا لي.. حتى إن تلك الأغاني التي تقرقع بأصوات الرصاص ومزدحمة إلى آخرها بمفردات جاهزين ومستعدين ونموتوا والجماجم تجعلني أصاب بالهلع.. لذا كان هناك وعلى الدوام تقدير خاص في أعماقي لأولئك الذين انتموا لهذا الكيان الممنوح في غالب تاريخ الحرب في العالم لرهانات الحمقى وللهزائم البشعة وللموت الجماعي.. بسبب ذاك الإيمان واليقين لديهم بأنَّ الوطن هو الذي يموتون من أجله لا الذي يمنحهم فرصًا حقيقية للحياة، ويا للغرابة.

«وأخيرًا بكيت سالم النايلي (عفاريت).. ظل في بالي واحدا من أبطال هذا الملف الشائك مع الضمير الليبي.»

لهذا بكيت لياليَ كثيرة تلك النظرة التي سقطت في أعماقي وأرقتني كثيرًا، وبكيت وقناة الجزيرة تستعرض اللحم المتناثر لجنود خلفته صواريخ الناتو في 2011، وبكيت الطيار الذي يستجوبونه في قناة الجماهيرية عن توانيه في ترحيل المتمردين إلى الجحيم، وبكيت وقنوات فبراير على أنواعها وتوجهاتها تضع أفراد الجيش قيد التحقيق من مذيعيها.

وبكيت يونس لِما في مقتله من خديعة وشماتة وشبهة فشل التغيير تُرجم لاحقًا في حرب مستهترة ولكن جادة جدًّا بين مسلمين وكفار، وأخيرًا بكيت سالم النايلي (عفاريت).. الذي ظلَّ في بالي واحدًا من أبطال هذا الملف الشائك مع الضمير الليبي.. ويظل مقتل هؤلاء تحديدًا ذوي الرتب الصغيرة الذين بقي إيمانهم على حاله ونواياهم على حالها، واستمروا في المضي معدمين وأحيانًا مديونين صوب الرصاص وبؤر التكفير التي لا تكتفي بحرمانهم من الحياة بل وتسلبهم حقهم في رحمة الله وغفرانه، ناهيك عن جنته.. يظل مقتلهم موجعًا ونابضًا كجرح وكحلم مغدور وكدعاء طويل حار وصادق، ولكنه لم يُستجب بعد.