Atwasat

ترحال: الكاميرا الخفية: رعبٌ وضحكٌ وما خفيَ كان أعظم

محمد الجويلي الثلاثاء 23 يونيو 2015, 06:49 صباحا
محمد الجويلي

ولّى زمن السمر الجميل الذي كانت تُروى فيه في شهر رمضان الفضيل قصص عنتر بن شدّاد وسيدنا عليّ وملاحم أبي زيد والجازية الهلاليّة في مقاهي الحواضر العربيّة، كما تُروى فيه نوادر جحا وطرفه بغاية الإضحاك والتسلية لتعوّضه مع انتشار الإذاعة والتلفزيون ملح "شناب" التونسي و"قزقيزة" الليبي، ثم بعد سنوات كاميرا خفيّة تضحك ولا تخيف، بل قل تخيف أحيانًا من وقعوا في حبائلها ولكن ليس إلى درجة «الإرهاب» والرعب.

الكاميرا الخفيّة لهذا العام في بعض القنوات التلفزيونيّة العربيّة تقدّم لمشاهديها بعد الإفطار طبقًا يمزج بين الضحك والرعب، خليطًا بين الحلو والمرّ أو بين الحلو والمالح ولكنّه أبعد ما يكون في نظر البعض عن المذاق الأصيل للباسطيلا المغربيّة الشهيّة. انتقلت العدوى من مصر إلى تونس، وأصبح مقلب الطائرة المعطوبة في السماء والتي تتأرجح في الفضاء براكبيها بين الحياة والموت فخًّا ينصب في رمضان هذا العام لمشاهير الفنّانين والسياسيين على قناة mbc1 المصرية وقناة 9 التونسيّة ومادة مرعبة لضحاياها ومضحكة ومسلّية للبعض من مشاهديها.

يوم الجمعة الماضي وبعيد الإفطار المصري وقبيل الإفطار التونسي والليبي كانت «لوسي» التي قيل لي - والعهدة على منْ قال - راقصة أو رقّاصة (بالشدّة على القاف وفي صيغة المبالغة) في اللهجة التونسيّة ضحيّة رامز جلال مبدع هذه الكاميرا الذي تنكّر لها في رفيق سفر ذي سحنة هندية في طائرة صغيرة تتعالى وتتهاوى حتّى يُخيّل إليك أو بالأحرى إلى لوسي أنّها ستسقط في عرض البحر، يقودها كابتن بارع في اللعب في الفضاء بقدر براعته في التمثيل والتواطؤ رفقة جميع ركّابها الممثّلين المولولين والفزعين كذبًا مع صاحب البرنامج رامز جلال أو ضلال كما شئت أن تسمّيه.

موتة تشهد على بؤس منزلة الإنسان في الكون الذي يحزن ويرقص ويحبّ ويكره وينكسر ويتجبّر

لوسي أبانت على أيّ حال عن رباطة جأش لعلّها تعلّمته من الرقص رغم خوفها الطبيعي، ولا ننسى أنّها امرأة وأكثر من ذلك رقّاصة لا تتقن غير التعبير بجسدها - انعدم في الكثير من الرجال ضحايا نفس المقلب مثلها الذين رأيناهم خلال السنوات الأربع الماضية يفتلون شواربهم ويستعرضون فحولتهم ووسامتهم، ومنهم فنانون وسياسيون مهذارون ذوو ألسن طويلة ونظرة قصيرة. كان أشدّ ما أزعج لوسي، على ما بدا منها، ليس سقوط الطائرة المتوقّع وإنّما الفزع والعويل المفتعل لرفيق رحلتها رامز الذي لم يترك لها الفرصة لتودّع الدنيا في هدوء وصمت وإثبات شهادتها ليس باللّه وبرسوله فقط، وإنّما لتشهد كذلك على بؤس منزلة الإنسان في الكون الذي يحزن ويرقص ويحبّ ويكره وينكسر ويتجبّر، ولكن يمكن أن يعصف بحياته وأحلامه الموت في أيّ لحظة نتيجة عطب ميكانيكي في طائرة يستقلّها أو في القلب أو الجسم الذي يستقلّه، فانهالت عليه أكثر من مرّة ضربًا وتوبيخًا، ليزداد ضربها وتوبيخها له بعد أن حطّت الطائرة على الأرض وانكشفت الخديعة "يا كلب، ياكلب" كانت تصرخ وتولول في هيستيريا حادة وهي تمسك بخناقه وبحزامه إلى أن خرّت طريحة الأرض مغشيّا عليها وبسقوطها، لا بدّ أن الضحكة المتبقية قد سقطت بدورها وانطفأت في شفاة المشاهدين ليعوّضها أسى ووجومًا عميقًا.

طالب عادل إمام، إمام الضحك دون رعب في الدراما العربيّة الحديثة، كما نقلت صحيفة إماراتية برفع قضيّة ضد رامز جلال أمام القضاء العسكري بسبب إرهابه لزملائه من الفنانين وقيل إن القضاء في تونس كذلك سيتدخل في تونس لمنع القناة 9 من مواصلة بثّها للكاميرا الخفيّة التي جعلت بدورها من الطائرة المنكوبة افتراضيّا بطلة لها والتي بدأت بعض البرامج التلفزيونية المصريّة والتونسيّة تتنازع على حقّ إبداعها والأسبقية في ذلك: المصريون أم التونسيون كما يمكن أن تتنازع أميركا وروسيا مثلاً عن أيهما صعد الأول إلى الفضاء أو بعد سنوات من الآن عن أيهما كان الأسبق في تعمير المريخ وتدنيسه بالأقدام البشريّة!

في قبضة فجر ليبيا الوهمية أسرار من شأنها أن تحرج حركة النهضة وتضع العلاقات الأخوية الليبية التونسية في خطر

في الكاميرا التونسية الخفية. ما خفي كان أعظم. منذ مدة يتناهى إلى مسامع التونسيين أخبار عن الامتعاض الشديد لحركة النهضة ومطالبتها بإلحاح إدارة القناة 9 عدم بثّ الحلقة التي كان موضوعها عبدالفتاح مورو أحد قيادييها ونائب رئيس مجلس نواب الشعب في تونس الذي صرح وهو تحت طائلة الذعر والرعب، وفي قبضة فجر ليبيا الوهمية بأسرار من شأنها أن تحرج الحركة وتضع العلاقات الأخوية الليبية التونسية في خطر. الطائرة التونسية التي حطت فعليًا بعد انقطاع الأكسجين والعطب الفنّي الوهمي والاستعداد المتخيّل للهبوط، بل القفز الاضطراري في البحر في مطار مدينة طبرقة التونسيّة الواقعة على الحدود الجزائرية الشماليّة، وعلى سبيل المزاح الثقيل في مطار مصراتة ووقعت في قبضة فجر ليبيا، وإنْ كانت في الحقيقة قد وقعت في قبضة ممثلين كوميديين تونسيين أحدهم مختص في تقليد أصوات السياسيين تحدث بلهجة ليبية على لسان جندي من فجر ليبيا مفترض مهدّدًا مزبدًا ومرعدًا وذهب إلى حد صفع أحدهم على وجهه.

قِيل إن «فجر ليبيا» توعدت الحكومة التونسيّة إنْ لم توقف بثّ هذه الحلقات الساخرة التي رأت فيها استهزاءً بما سمّتهم ثوار ليبيا وتشويها مغرضًا ومتعمّدًا لهم بأنّه سيقع الاقتصاص من رعاياها، ما يعني المزيد من المخطوفين التونسيين في ليبيا، وهو ما جعل الحكومة التونسيّة تعلن غلق قنصليتها في طرابلس ودعوة التونسيين إلى مغادرة البلد الجار فورا والعودة إلى بلدهم.

الكاميرا الخفية للتاسعة زادت الطينة بلّة. «كانت تشخر زادت بف» يقول المثل الشعبي. فالعلاقات التونسية الليبية على المستوى الرسمي تشهد منذ مدّة توعّكًا نتيجة ضعف الدولة هنا وغيابها تقريبًا هناك وانعدام رؤية واضحة لحل المشاكل في الدار، فما بالك مع الجار. فباستثناء بعض الناشطين في المجتمع المدني هنا وهنالك وبعض السياسيين العقلاء في البلدين الذين يعانون الأمرّين في رأب الصدع الذي يحدث من حين إلى آخر في هذه العلاقة ويعدّون على أصابع اليدين اليتيمتين أصبحت أحلام الشعبين ووحدتهما التي برهنا عليها أكثر من مرة، وفي سياق ازداد فيه المثقفون والمفكرون في البلدين تهميشًا وإقصاءً من الفعل في قبضة دهماء القوميْن وجهلتهم ورعاعهم.

ونحن لا نلتمس عذرًا، فإنّ المقصود بالسخرية بالكاميرا الخفية التونسية ليسوا الليبيين جميعًا ولا حتّى «فجر ليبيا»

وفي الحقيقة – ونحن لا نلتمس عذرًا - هنا للكاميرا الخفية التونسية وللساهرين عليها، فإنّ المقصود بالسخرية ليسوا الليبيين جميعًا ولا حتّى «فجر ليبيا» هذا الجسم الذي لا يعرف حتّى الليبيون أنفسهم بدقّة مكوّناته إلّا بالقدر نفسه من السخرية والإضحاك الذي يكون موضوعه سياسيين تونسيين على اختلاف مشاربهم وأيديولوجياتهم كانوا طوال السنوات الماضية موضوع تندّر من الكوميدي التونسي الذي تقمّص شخصية الفجري الليبي: مورو نفسه والغنوشي والمرزوقي الرئيس السابق الموقت والباجي قايد السبسي الرئيس الحالي وأول رئيس جمهورية تونسية منتخب، ما ينفي تهمة التحامل المغرض على الليبيين جميعًا.

لكن هذا لا يعني، كما قال لي حلّاق بالأمس وهو يحلق ذقني - والحلاقون بارعون في الدبلوماسية كبراعتهم في إعمال الموس الحاد في الذقون - كان من الأفضل نظرًا لغياب سلطة القانون في هذا الظرف الاستثنائي الذي تمرّ به ليبيا واتقاء للمشاكل إذا كان لا مفرّ من إخراج هذا السيناريو ألّا يُزجّ في هذه الكاميرا الخفيّة بفجر ليبيا ويقع الاختيار بديلاً عنها مثلاً داعش، أي الحمار القصير المثير للشفقة الذي يمكن ركوبه دون مخاطر تُذكر! لتنزل الطائرة عوض مصراتة في درنة أو سرت ويصعد فيها داعشيان ليبي وتونسي [وما أكثر التونسيين في سرت] حتى تكون "قسمة أو خيان" أو إخوان بين التوانسة والليبيين وكثر الهمّ والرعب كذلك يضحّك.

من البديهي أن يُلقي الإرهاب والرعب اللّذان أصبحا جزءًا من حياتنا اليوميّة في كامل العالم العربي، إلّا ما رحم ربّك، بظلاله على الكوميديا والفنّ في بلداننا كما أنّه من البديهي أن يندغم في ذلك مع الضحك، والجماليات العربية ليست وحدها التي تخلط بين الرعب والضحك وتقدّمه في كوكتال واحد "فكثر الهمّ" الذي يصل إلى أرقى درجاته مع الرعب يضحّك كما قلنا، أو كما يقول المثل الشعبي، والإنسان كثيرًا ما يلتجئ إلى الضحك باعتباره آلية دفاع ضدّ الاضمحلال والتلاشي تفريجًا عن كربة في أحلك الظروف التي يمرّ بها وأكثرها وطأة ورعبًا على نفسه سخرية من عبث الأقدار ومن منزلته الهشّة في الكون التي يعود فيها جينيالوجيا أمام هلاك لا مفرّ منه إلى طبيعته الأولى متمسّكا بالبقاء على قيد الحياة تمسّك الرضيع بثدي أمّه ويستحيل فيها إلى "أرنب" ضعيف ومذعور كما ظهر بعض السياسيين في طائرات الكاميرا الخفيّة لهذا العام، على طرف نقيض مع الصور التي ارتسمت في أذهان الناس عنهم وهم يرونهم على شاشات التلفزيون كالأسود يزأرون ويزمجرون ويتوعّدون.

إنّ الضحك في الأزمنة المتفجّرة هو حماية للفرد وللمجتمع وآلية دفاع شعبيّة بامتياز في المراحل التي تتميّز بالعنف والتوتّر وعدم الثقة في الحاضر والمستقبل والخوف من المجهول وهو من هذه الزاوية كما يؤكّد أوليفييه موران (Olivier Morin) لا يصلح فقط لحلّ قضايا التأويل التي تطرحها الوضعيات الاجتماعيّة المبهمة، وإنّما كذلك لفت الانتباه إليها والتشديد على تأثيرها في النفوس (1)، وهي الفكرة التي يجمع عليها معظم الإنتروبولوجيين مثل ألفراد براون (AlfredBrown) في اعتبارهم الدعابة "عفوًا اجتماعيًّا شاملاً مصغّرًا" (Une petite amnistie sociale) (2).

الضحك في الأزمنة المتفجّرة هو حماية للفرد وللمجتمع وآلية دفاع شعبيّة بامتياز في المراحل التي تتميّز بالعنف والتوتّر

بالأمس القريب وفيما سُمّي بالعشرية السوداء في الجزائر انفجر الجزائريون ضاحكين كما لم يضحكوا قطّ في تاريخهم. وقد أحاط الإنتروبولوجي الجزائري الأستاذ بجامعة ليون (Lyon) الثانية الفرنسيّة عبدالرحمن الموسوي بإشكالية العنف في علاقته بالضحك في مقال كتبه بالفرنسية من كل جوانبه متخذًا مثال عشرية التسعينات هذه المتسمة بالرعب والإرهاب الدموي مثالاً على ذلك (3).

من النكت التي علقت بذهني ومن إبداع هذه المرحلة ورواها لي صديق جزائري هي تلك التي تتحدّث عن أحمد وزوجته خديجة وكان يستقلّان سيّارة أجرة أوقفتها في حاجز وهمي مجموعة إرهابيّة مسلّحة ترتدي ملابس عسكريّة رسميّة، وكانت تبحث عنّ كلّ من يشتغل في الأجهزة الأمنية والعسكريّة للدولة - ولا يُستثنى في ذلك حتّى المتقاعدون- لإنزاله من السيارة وذبحه من الوريد إلى الوريد. تقدم الشاب الملثّم نحو السيارة وطلب بطاقة هوية الحاجة خديجة وكان زوجها الحاج أحمد متقاعدًا من الجيش الوطني. وما راعها وراع من في السيارة وخارجها إلّا أن ترى الشاب المسلّح يجهش بالبكاء ويقفز في حضنها مردّدًا "اسمك على اسم أمّي الغالية التي لم أرها منذ سنوات واشتقت إليها كثيرًا.

لا تخافي ولن يمسّك أحد بسوء يا عزيزتي"، قبل أن يلتفت إلى زوجها ويسأله في غلظة "ما اسمك؟" أجابه "يا وليدي اسمي أحمدْ ولكن بالصحْ ينادولي خديجة". أثبتت الكاميرا الخفية لرمضان هذا العام رغم كلّ المآخذ عليها حتّى وإنْ كانت "الروح عزيزة" على الذكر والأنثى على حدّ السواء أن خديجة أو لوسي يمكن أن تكون أكثر جلدًا وصبرًا ورباطة جأش في مواجهة خطر محدق من أحمد. وهذه قضيّة أخرى جدّية لا تقلّ تعقيدًا عن إشكالية الرعب في علاقته بالضحك.

(1) Olivier Morin, « Introduction : les équivoques du rire », in Rires : Revue Terrain, N° 61, Paris, Maison des sciences de l’homme, septembre 2013,
(2) المرجع نفسه، ص. 10
(3) Abderrahman Moussaoui, « Rire en situation de violence : L’Algérie des années 1990 » in Rires, revue Terrain, Numéro 61, Paris, Maison des sciences septembre 2013, p.124.de l’homme,