Atwasat

في زيمبابوي

محمد عقيلة العمامي الإثنين 07 نوفمبر 2016, 10:19 صباحا
محمد عقيلة العمامي

في زيمبابوي، تأتي عبادة الأسلاف في المرتبة الثانية، كديانة من بعد المسيحية بمختلف مذاهبها، فيما يأتي الإسلام في المرتبة الثالثة. والحقيقية أن الديانتين السماويتين غالبا ما تختلطان، في أفريقيا، بخزعبلات وشعوذات محلية. ولكن عبادة الأسلاف، أو بمعني أن والد المرء ومن قبله جده، هو في الواقع محل تقديس من بعد موته، وذلك يعني أن والده مشروع إله لعائلته وبالتالي يجعل للروابط العائلية تقديسا وترابطا.

زيمبابوي، أعادتني، من دون قصد، إلى استرجاع أحداث عشناها نحن جيل الستينيات؛ إذ فرض الإعلام علينا تتبعها من دون أن نعرف بصورة واضحة تفاصيلها. حينها كانت تسمى روديسيا الجنوبية، وكان لها رئيس اسمه "آيان سميث" وهو استعماري، بمفهوم ذلك الوقت، من أصول بريطانية اعلن في نوفمبر 1965م استقلالها عن المستعمرات البريطانية وهو أمر لم ينل رضى لا بريطانيا ولا أمريكا، على الرغم من أنه حاول لأكثر من عامين أن يقنعهم بوجهة نظره ولكنه لم يُفلح فحورب اقتصاديا، وبرعاية الأمم المتحدة، وصُنف على أنه أقام مستعمرة طبق فيها التمييز العنصري.

كان النظام الانتخابي الذي أقره لروديسيا، في ذلك الوقت، منطقيا للغاية ولا ينم على ميز عنصري وإنما ينم على حقيقة مفادها أن من ينوبون عن الشعب هم سلاح ذو حدين، وما لم يحرص الناس في اختيار مرشحيهم ستتحول الديمقراطية إلى مصيبة؛ ولذلك وضع شروطا في الذين يحق لهم التصويت ، فقسم مقاعد البرلمان البالغ عددها 65 مقعدا إلى مجموعتين : مجموعة (أ) وتحوي 50 عضوا، يشترط فيمن يحق له اختيارهم أن يكون حاصلا على مستوى عالٍ من التعليم، أو الدخل، أو الملكية حتى يدرج اسمه في هذه القائمة. أما المجموعة (ب) وتضم 15 عضوا فينتخبهم من هم أقل مستوى من ناخبي المجموع(أ).

قال "آيان سميث" لبريطانيا التي اتهمته بالعنصرية: "في نظامنا الانتخابي لا نستبعد الناس لأسباب عنصرية، أو لأنه ليست لديهم أية فكرة عن الديمقراطية، وإنما على أساس الجدارة، وهناك 20 ألفا من الأفريقيين تؤهلهم مستوياتهم لأن يكونوا في القائمة (أ) في حين أن -المستعمرين البيض- لا يبلغون حتى ربع هذه النسبة، أما السود الذين تلقوا تعليما ومن مستوى اجتماعي أقل، تناسبهم القائمة (ب) فهم حوالي 500 ألف. واعترف أن البيض أكثر تأهيلا من السود لكن الفرق بدأ يضيق بينهما. بسبب الاهتمام بالتعليم صار ما نسبته 95% من الأطفال السود يذهبون إلى المدارس الابتدائية، وأن محو الأمية وصل 92%، وهو رقم يندر في المجتمعات الغربية.

أعتقد أنه لم يعد خافيا على أحد حجم الخطأ الذي ارتكبناه نحن الليبيين بقفزنا نحو انتخابات لم يراعَ فيها فقر هذه التجربة

في سنة 1890 وصل حوالي 200 أوربي إلى روديسيا من جنوب أفريقيا وجعلوا منها دولة بمزارع كبرى وأخرى لتربية الماشية، وشقوا الطرق ومدوا خطوطا حديدية وأنشأوا مصانع لتجميع السيارات وأخرى للصلب. باختصار شديد صارت دولة حقيقية، غير أن أكثر ما اهتموا به هو التعليم فصارت بلدا كبيرا على قدر كبير من النمو في كثير من النواحي وفق المعايير الأوربية. ثم قال: " تريدنا بريطانيا، بل تصّر على أن نسلمها فجأة إلى أغلبية ما زالت بدائية ". ولم تهدأ بريطانيا وأمريكا حتى سُلمت البلاد للأفريقيين مثلما يريدون. فماذا حدث؟

تقول الإحصائيات أنه بحلول سنة 2007 بلغ عدد اللاجئين، 3.4 مليون (زيمبابوي) نزحوا إلى دولتي جوار دولة روديسا التي صارت زيمبابوي: بوتسوانا وجنوب أفريقيا، بسبب الانهيار الاقتصادي والتدابير السياسية القمعية في البلاد. وكانت زيمبابوي -عندما كان اسمها رود يسيا- حققت رقما قياسيا على الصعيد الدولي في مجال البنية الصحية والتعليمية، وصار متوسط عمر الفرد 60 سنة حتى سنة 1990 ثم انخفض سنة2004 ليصير 44 سنة، و(تحصلت) على المرتبة الرابعة في العالم من حيث معدلات وباء نقص المناعة (الإيدز).

وتقول الإحصائيات أن 2000 معلم غادروا البلاد عام 2007، مع العلم أن أول جامعة بنيت بزمبابوي -عندما كان اسمها رود يسيا - سنة 1952 أي قبل ثلاث سنوات من تأسيس جامعة بنغازي. وصارت جامعاتها البالغة 7 جامعات مهددة بالقفل بسبب الحالة الاقتصادية، وكان بها معظم القنوات الإعلامية ولكن لم يعد بها سوى القنوات التي تمتلكها الحكومة. ومن بعد أن صارت روديسيا زيمبابوي، وطردوا المزارعين الزمبابويين البيض، وبدأ حكم الحزب الواحد، بلغ التضخم 1600%! ولا يتعاملون الآن بالدولار الزيمبابوي وإنما يتعاملون بالدولار الأمريكي، وراند الجنوب الأفريقي، وبولا بوتسوانا والجنيه الإسترليني واليورو أما المعاملات الحكومية فبالدولار الأمريكي. وآخر ما قام به حاكمها (الزمبابوي) سجن البعثة الرياضية التي عادت من دورة البرازيل الرياضية لأنهم لم يحققوا أية نتائج!

وتذكرت صديقي غيث العائد مؤخرا من فزان الذي أخبرني أن الناس هناك، ليس لديهم مشكلة سيولة، إنهم يتعاملون مباشرة بعملات الدول المجاورة كلها، وأن المواطنين صاروا أقلية.
كل ما حدث في زيمباوي كان بسبب التطاول على نظام انتخابي منطقي للغاية، وأعتقد أنه لم يعد خافيا على أحد حجم الخطأ الذي ارتكبناه، نحن الليبيين، بقفزنا نحو انتخابات لم يراعَ فيها فقر هذه التجربة، ناهيك عن نتائج نظام: "إجماع .. إجماع " الذي استمر 42 سنه. ولا أعتقد أننا لم نتأسف على سوء خياراتنا، ومنح أصواتنا في الانتخابين الأول: المؤتمر الوطني العام، والثاني: مجلس النواب. أنا شخصيا أعترف أنني أخطأت في خياراتي، وبيني وبين نفسي أتحسر على أنني لم انتخب فلانا الذي لم ينجح -لأسباب لا علاقة لها بصوتي- ونجح فلان أو فلانه فكانت الكارثة. فمن منا لا يعي الآن أن الكارثة بدأت مباشرة مند تلوين السبابة، التي تباهينا بها ونسينا أننا نسبُ بها، ونتوعد بها، ونوظفها بامتياز في لحس حواف طبق البازين!

نظام توزيع (آيان سميث) الانتخابي أسسه على التعليم، وهو بالمناسبة بدأ حياته معلما، مقتنعا أنه لن تكون هناك فائدة ما لم يهتم المجتمع بالتعليم. وهذا وسام شرف نُقر به نحن جيل الستينيات ونثبته على صدر العهد الملكي الذي أولى التعليم الأهمية القصوى فخلق في مدة وجيزة كوادر متعلمة ساهمت في نهضة سريعة بل قاد بعضها نظام القذافي باقتدار حتى النهاية. التعليم ولا شيء أهم منه، هو الوسيلة الفعالة لمعرفة أحوال الدنيا والدين. ومعني المواطنة.