Atwasat

ترحال:الحلم الاشتراكي

محمد الجويلي الثلاثاء 09 يونيو 2015, 08:57 صباحا
محمد الجويلي

«لم نكن ننعم بالكماليات، لكن كنّا ننعم بالهناء والراحة، بالضروري والحاجيّ ونوفّر لأطفالنا الطعام والمسكن اللّائق والتعليم المجاني. لم نكن نحلم بالسفر خارج بلداننا وكنّا في شبه عزلة عن العالم. ولكن كنّا نمارس الرياضة جميعا صغارا وكبارا وكانت فتياتنا يحصدن الميداليات الذهبية في الألعاب الأولمبية ويتربّعن على عرش العالم في العديد من الألعاب الرياضيّة، خاصة ألعاب القوى... لكن انظر ما صار عليه حال العديد منهنّ: راقصات في ملاهي العالم وكابرياته يعرضن أجسادهن ويبعنها على قارعة الطريق في المدن الغربية وحتّى العربيّة. بطالة متفشّية وأطفال مشرّدون والأغنياء يزدادون غنى والفقراء فقرا».

هكذا كان يحدّثني سائق التاكسي البولوني الأصل ساخطا حانقا وغير عابئ بفرحة الحياة والناس في شوارع باريس احتفالا بالشمس وهو يقلّني من وسط المدينة إلى مقرّ قناة فرانس24 في إحدى ضواحي العاصمة الفرنسيّة مقارنا بين ما كان عليه حال بلده بولونيا وبلدان أوروبا الشرقية أو، كما كانت تُسمّى، الكتلة الاشتراكيّة، والحال الذي تردّت فيه اليوم. قلت له«الموضوع الذي تطرحه مهمّ ويسيل لعابي ولكن أنا ذاهب للمشاركة بعد أقلّ من ساعة من الآن في حصّة حول الاقتصاد المغاربي والآفاق التي يمكن أن تفتحها له شراكة واعدة مع البلدان الإفريقية وأرغب في أن أدّخر جهدي لذلك. لكن لا بأس من أن أعطيك رأيي في المسألة لأهمّيتها وأخذا بخاطرك الكريم.

أنتم ورثة حضارة عظيمة وأرضكم غنيّة بالغاز والبترول والمعادن ولكنّكم تقتلون بعضكم البعض كلّ يوم ومنذ أعوام باسم الدين

قاطعني في ما معناه«نحن في الهوى سواء مع البلدان المغاربية والعربيّة، بل حالكم أتعس منّا. أنتم ورثة حضارة عظيمة وأرضكم غنيّة بالغاز والبترول والمعادن ولكنّكم تقتلون بعضكم البعض كلّ يوم ومنذ أعوام باسم الدين الذي احتكره البعض منكم لخدمة الرأسماليّة المتوحّشة والحال أنّ الأنبياء كلّهم بمن في ذلك نبيّكم اشتراكيون يحبّون الفقراء والمساكين والعاملين بعرق جبينهم».

مثل هذا البولوني، بدأ تذمّر الناس في أوروبا من غلاء المعيشة يتزايد شيئا فشيئا وسخطهم على الوضع القائم يتعاظم يوما بعد يوم لما يرونه بأمّ أعينهم من تكدّس للثروة لدى أقلّية من الناس واحتكارهم لها على حساب الطبقات الشعبية والمتوسّطة العاملة بالساعد والفكر ولسياسات التقشّف التي يفرضها الاتحاد الأوروبي على بعض البلدان المنضوية في رحابه مثل إيطاليا وأسبانيا واليونان ولما يتناهى إلى مسامعهم من أخبار الفساد التي تنخر الهيئات الدولية وآخرها الجامعة الدوليّة لكرة القدم التي استقال رئيسها أخيرا والتي هي أحد أوكار الشرّ في العالم على حدّ قول السائق البولوني الذي لم يفته أن يندّد بظاهرة الثراء الفاحش الذي ينعم به آلاف لاعبي الكرة في العالم بما في ذلك بلده بولونيا التي سبق أن أنجبت في نهاية السبعينات واحدا من أعتى المنتخبات على وجه الأرض بلاعبين بسطاء هواة وعمال مناجم في حين أنّ عملة البشريّة ومفكّريها وضمائرها الحرّة تزداد خصاصة وحرمانا يوما بعد يوم. هذا التذمّر والرفض يعبّر عنه الأوربيون سياسيّا بطرق مختلفة وأحيانا متناقضة أشدّ التناقض.

ففي حين ذهب اليونانيون منذ مدّة إلى انتخاب حزب سيريزا (Syrisa) اليساري «الراديكالي» كما يُطلق عليه في وسائل الإعلام الأوروبية، وهي صفة لا تخلو من سوء نيّة حسب أنصاره، ليحذو حذوهم منذ أيام الأسبان بإعطائهم للبوديموس (Podemos) اليساري كذلك المنبثق عن الحركة التي سمّت نفسها بـ«الساخطين» بالطبع على العولمة والرأسمالية النهمة التي لا تشبع أبدا نسبة هامة من أصواتهم وتنصيب امرأة من هؤلاء عمدة لمدينة برشلونة الكبيرة و«العظيمة» بعظمة فريقها لكرة القدم، وهو واحد من أغنى الفرق في العالم تُوّج في آواخر الأسبوع الماضي بطلا لأبطال الفرق الأوروبية في مدينة صار قلبها ينبض على اليسار بازدياد عمّالها خصاصة وأغلب سكانها فقرا أرادت عمدة مدينتهم أن تقاسمهم شظف عيشهم بأن خفّضت مرتبها من 12000 يورو، مرتب العمدة التي سبقتها إلى 2200 يورو فقط، يزداد اليمين المتطرّف قوّة كما هو الحال في فرنسا ليسحب البساط من تحت أقدام اليسار الاشتراكي بما في ذلك الحزب الذي لا يحمل كما يقول اليسار التقليدي الماركسي التجديدي التائب عن العنف الثوري ومشتقاته الأخرى من الاشتراكيّة إلّا الاسم فحسب.

البعض مازال في أوروبا يحلم بالاشتراكية التي وحدها قادرة، على حدّ اعتقاده، على تحقيق العدل الاجتماعي ولا ترى في المهاجرين، خاصة العرب والمسلمين عدوّا لها وإنّما رفيق طريق في مواجهة العسف والظلم، في حين يذهب البعض الآخر تحت تأثير فوبيا العروبة والإسلام ولنفس الغايات إلى تبنّي آيديولوجيا معادية لهؤلاء لا ترى فيهم إلّا خطرا محدقا مترّبصا بهم.

في العالم العربي دفع الحلم الاشتراكي ضريبة غالية لارتباط هذا الحلم بالماركسية ومواقف ماركس من الدين «أفيون الشعوب»

لا يسمح السياق، وفي مقال واحد، بتوصيف دقيق لما آل إليه حال الحلم الاشتراكي للبشريّة اليوم وانتكاساته وانتصاراته عبر التاريخ وتقليبه من وجوهه المختلفة، فهذا ما لا يمكن الإلمام به في مجموعة كتب، فما بالك بمقال واحد، غير أنّه يمكن الإشارة إلى الدروس المستخلصة من سقوط الاتحاد السوفيتي والصين التي تحوّل فيها الحزب الشيوعي الصيني الحاكم إلى اليوم الذي يفوق عدد منخرطيه عدد سكّان العالم العربي بأكمله من حزب عمّال وفلّاحين إلى حزب براجماتي تمتطيه الرأسمالية الصينيّة النشيطة لاكتساح الأسواق العالميّة وربح المعركة الاقتصادية خاصة مع المنافس الأمريكي.

في العالم العربي دفع الحلم الاشتراكي ضريبة غالية لارتباط هذا الحلم بالماركسية ومواقف ماركس من الدين «أفيون الشعوب» كما قال. لم ينتبه الماركسيون العرب الذين قال فيهم المفكر المغربي محمد عابد الجابري«أنّهم يبحثون عن صحّة المادية الجدلية في واقعهم عوض محاولة فهمه بها» إلى أنّ ماركس قد عمّم ملاحظاته حول الكاتولوكية التي كانت فعلا أفيونا في عصره على جميع الأديان بما في ذلك الإسلام وهو ما انتبه إليه عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر(Max Weber) الذي أبان في مؤلّفه «الأخلاق البروتستانية وروح الرأسماليّة» (The Protestant Ethic and the Spirit of Capitalism) الكيفية التي يمكن أن يتحوّل بها الدين أو تأويله، على الأصحّ، في صالح التقدّم التاريخي وهو ما يمكن أن نقوله اليوم بعد قراءة متأنّية في تاريخ الإسلام الذي طالما لعب دورا طلائعيا وقاطرة للتقدّم ومحفّزا للوعي الإنساني وليس مخدّرا له عندما احتضنه علماء ومفكّرون مسلمون في أوج الحضارة العربيّة الإسلامية في العصر العباسي مثلا في عهد المأمون والمعتصم والواثق في المنتصف الأوّل من القرن الثالث للهجرة وهو ما أبان في الحقيقة عليه منذ قرون العلّامة ابن خلدون الذي انطلق من المالكية الأشعريّة لبلورة نظرية متكاملة حول الاجتماع البشري كان ماركس يجهلها إلى حين لفت انتباهه إليها رفيقه انقلز (Engels) محفّزا له على قراءة مقدّمة هذا العبقري المسلم على حدّ تعبيره التي كانت مترجمة إلى الانجليزية في عصرهما ويدعوه إلى الاستفادة منها في بلورة نظرية متكاملة للتاريخ الإنساني.

ما زاد الطين بلّة،هو أنّ على العكس تماما ممّا اصطلح عليه باللّاهوت السياسي ممثّلا في الكنيسة الكاتولوكيّة في أمريكا الجنوبيّة الذي لم ير تناقضا بين الدين والاشتراكيّة، بل تكاملا تاما بينهما وانخرط مع اليسار في حرب ضدّ الدكتاتورية العسكرية والفساد والرأسمالية المتوحّشة لم تر الحركات الإسلاميّة التي ترعرعت وقوي عودها في القرن العشرين في الاشتراكيّة إلّا عدوّا لدودا ينبغي محقه لتجد نفسها أحيانا عن وعي وأخرى دون وعي منها أداة تستخدمها الرأسماليّة العالميّة لبسط نفوذها في العالم العربي والإسلامي.

ما يُقال عن الحركات الإسلاميّة، يُقال كذلك عن معظم الأحزاب الماركسيّة العربيّة التي كانت تتأثّر بما يحدث في موسكو وبيكين أكثر ممّا تتأثّر بما يجدّ تحت أقدامها وإذا ما وصل أحدها إلى السلطة كما حدث في اليمن الجنوبي وجد نفسه فريسة للعامل الثقافي والسوسيولوجي تتجاذب زعاماته وهم الأمميون نظريّا الانتماءات العشائرية والقبلية وهو العامل- وهنا تكمن المفارقة- الذي أهملته هذه الأحزاب وحجب عنها النظر لترى ما لا يمكن أن تراه بالعين المجرّدة من العوامل الدافعة إلى التقدّم والرقيّ في الدين والفكر الإسلامي.

الحلم الاشتراكي تحوّل إلى كابوس في روسيا والصين مع بيروقراطيّة الدولة وفي تونس مع تجربة التعاضد وإلى جريمة في ليبيا مع ما سُمّي بـ«الزحف الأخضر» وما يمكن أن نسمّيه على العكس من ذلك بزحف الجراد على الأخضر واليابس: على ممتلكات الناس وأرزاقهم وإلى ملكيّات شيوعيّة في كوبا وكوريا الشماليّة تنتقل فيها السلطة من الأخ الأكبر إلى الأخ الأصغر ومن الأب إلى ابنه تماما مثلما كان عليه الحال في تاريخنا مع المماليك والدول الأيوبية والبويهية والسلجوقية! ولكن الحلم الاشتراكي قديم قدم الإنسان وسابق لماركس والأنظمة الشيوعيّة وسيظلّ حيّا دائما ومزعجا للّذين يكنزون الذهب والفضّة ولا ينفقونها لا في سبيل اللّه ولا في سبيل أوطانهم ويرفضون أن يذهب منها القليل ضريبة لخزانة الدولة.

الحلم الاشتراكي حلم به البدائيون والقروسطيون والحداثيون والأنبياء والرسل وشعراء الإنسانية الكبار وفنّانوها على مرّ التاريخ. إنّه حلم لن يموت ولكن لن يكتب له التحقّق على أحسن وجه إلّا إذا كان تعادليّا، يعدل بين مصلحة الفرد ومصلحة الجماعة، بين ما هو حقّ وملك للفرد وماهو حقّ وملك للجماعة، بين الحياة المادية والحياة الروحيّة للإنسان وخاصة ألّا يستعمل في ذلك أجهزة الدولة القمعيّة.