Atwasat

... من الغولة إلى سَلَّال القلوب

سالم العوكلي الخميس 21 مايو 2015, 10:36 صباحا
سالم العوكلي

حدثني أحد الأصدقاء عن طالب من درنة تخرج بامتياز من هندسة الاتصالات، ولم يستطع رغم بذله كل الجهود من الحصول على إيفاد لإكمال دراسته، وحين التقى بصديق من جماعة الأخوان المسلمين اقترح عليه أن ينضم إلى الجماعة ويسجل بتاريخ رجعي في هيأة المحاربين، ما سيضمن له الإيفاد السلس إلى دولة أوربية لإكمال دراسته. أخبره بأنه شارك في انتفاضة فبراير عبر الميدان من بدايتها لكنه لم يحارب، وفي النهاية كما يقول ذهب من سجل من دفعته، رغم تدني معدلاتهم، للدراسة بالخارج، ومازال يخاطب جهات الاختصاص دون جدوى.

حين سمعت هذه الواقعة تذكرت حكاية قديمة حصلت معي، وكأن التاريخ يعيد نفسه، وإن كان استبدل عباءتة البدوية بربطة عنق ومسبحة.

شهد فرع جامعة قاريونس بالبيضاء أحداثا دموية في ذكرى أبريل، بعد أن اجتاح الحرم الجامعي، صباح الأحد 11 أبريل 1982 م، عصابات من اللجان الثورية وأفراد كتائب أمنية مدججين بالسلاح، وأخذوا تنكيلا وضربا في الأساتذة والطلاب، والقبض على الكثيرين منهم، وحصل هذا بعد اتهام هذا الفرع بالرجعية وبكونه أصبح ملاذا للطلاب المفصولين من جامعات أخرى لأسباب ثورية، وبعد هذه الأحداث سيطر الثورجيون على الجامعة، وبالرغم من أنهم طلاب مثلنا، لكنهم أصبحوا هم من يديرون شؤونها بما فيها الموافقة على استكمال الدراسات العليا.

بعد تخرجي تقدمت بطلب لاستكمال الدراسة، لكنه رفض مرارا، مثلما حدث لكثير من الطلاب الذين تخرجوا بمعدلات عالية، وبعد أن توسط بعض أصدقائي من الطلاب الذين مازالت تربطهم علاقة بكل الأطراف، اشترط فريق العمل الثوري بالكلية أن أمثل أمامهم لأوقع في المثابة، وأنتسب إليها مقابل الموافقة على استكمال دراستي. رفضتُ الشروط بشدة، وقلت للوسطاء: لو كنت تخرجت بتقدير متدنٍ لربما فكرت في الأمر كتعويض عن إخفاقي، لكن لوائح الجامعة لا تعتبر سوى الشرط الأكاديمي لمن يرغبون في إكمال دراستهم على حساب الدولة. ولم أستطع إطلاقا مواصلة دراستي، كما لم أستطع أبدا الحصول على شهادة التخرج التفصيلية(الترانزكريبت) من أجل استكمال الدراسة على حسابي. وكان السبب دائما: متحفَظٌ عليه.

واقعة هذا الطالب الذي اُشترط عليه التسجيل في الجماعة لينال فرصة استكمال دراسته رغم تخرجه بمعدل عالٍ، تعيد التاريخ بحذافيره، وإن كان الأمر حدث مع النظام السابق بعد سنوات من استيلائه على الدولة، فإنه مع نظام الأخوان الجديد، بدأ منذ أول عام من استيلائهم على مفاصل الدولة، ولا أعرف ما إذا كان الطلاب الذين يوفدون إلى الدراسة في الخارج تقام لهم قبل الخروج دورات عقائدية كما كان يحدث إبان النظام السابق.

تعجبت كثيرا عندما طلبت حكومة الكيب الـ"سي في" من المواطنين الليبيين لتقليدهم مناصب في الحكومة شرط الحصول على شهادة الدكتوراة

عام 1989 نشرتُ مقالة في مجلة(لا) التي صدرت بعد إطلاق سراح مجموعة من سجناء الرأي، وأدار تحريرها بعض المثقفين الخارجين توا من السجن، كمحاولة من النظام للإعلان عن مرحلة مختلفة بعد الغارة الأمريكية، لكن القائمين على مجلة"لا" ذهبوا بها إلى طرح مسائل جذرية تدين بنية النظام من أساسه وتكشف الفساد المستشري في مؤسساته، فلم يحتمل النظام خطابها الوطني القوي، ومثلما أسس هذه المجلة عمل على إجهاضها تدريجيا، بداية بنقل تبعيتها إلى رابطة الأدباء والكتاب، ومن ثم تغيير أسرة تحريرها إلى أن توقفت عام 1999 بقرار من رقابة المطبوعات.

عندما اطلعت على العدد الأول من المجلة ورأيت مدى الهامش المتاح لها في التعبير، حيث كانت المطبوعة الوحيدة التي لا تمر على رقابة المطبوعات في بداياتها، وعلى غلافها عبارة تصدر عن دار الحلم. فكرت في الكتابة عما حدث في أبريل في فرع البيضاء، وتحت عنوان:"الطبقات العازلة... تمزيق قوائم المنوعين من العلم" وعلى غرار إجراء(تمزيق قوائم الممنوعين من السفر) الذي أعلنه رأس النظام بنفسه عام 1988، نشرتُ بمجلة"لا" مقالة تتحدث عن تفاصيل ما حدث في أبريل 1982، وعن كون الدراسة العليا أصبحت مرتبطة بكونك ثوريا أو من قاطني مدينة سرت، حيث كان كل الموفدين للدراسات العليا من رواد المثابة الثورية رغم حصولهم على معدلات متدنية جدا، من المفترض أن تؤدي إلى فصلهم حسب لوائح الكلية.

كنت أعني بالطبقات العازلة، وباعتبار تخصصي في مجال التربة والمياه، تلك الطبقات الكلسية التي تتشكل في نسيج الأرض من الرواسب، تتكلس فتمنع انسياب المياه بين أجزاء التربة الواحدة، وتتسبب في أحيان كثيرة في ملوحة التربة وبالتالي عدم صلاحيتها للزراعة.

انعكس أخيرا هذا المعيار الانتقائي على واقع الجامعات الليبية المتردي حتى الآن، فمنذ السبعينيات أصبح شرط الإيفاد للدراسات العليا الوحيد هو الولاء الثوري، ولأن أصحاب الولاء يتواجدون في المثابات أكثر من تواجدهم في المحاضرات كانوا يحصلون على درجات متدنية، ولا مشكلة في ذلك ماداموا يضمنون إيفادهم على كل حال، وامتلأت الجامعات الليبية بأعضاء هيأة تدريس متواضعي المستوى، تحصلوا كيفما اتفق على شهاداتهم العليا، وعادوا يكملون دورهم الثوري في الجامعة كأعضاء هيأة تدريس هذه المرة.

حزنت كثيرا عندما سمعت بقصة الطالب المتفوق من درنة الذي لم ير أملا في استكمال دراسته إلا بطقوس الولاء للجماعة المهيمنة على مفاصل الدولة

لهذا السبب تعجبت كثيرا عندما طلبت حكومة الكيب الـ"سي في" من المواطنين الليبيين لتقليدهم مناصب في الحكومة شرط الحصول على شهادة الدكتوراة، وكان الكيب في جامعة طرابلس بداية السبعينيات وهو يعرف جيدا أن الطلاب المتفوقين منعوا من الدراسات العليا أو سجنوا في تلك الفترة ولم يتم إيفاد إلا من يؤكد ولاءه الثوري، وهو يعرف أن معظم شهادات الدكتوراة لا تسمن ولا تغني، وكان من الممكن أن تكون الأمور أقل وطأة لو صاحب شرط الولاء معدلات معقولة لإكمال الدراسة، ولكن لم يحصل هذا النوع من الترقيع لأن الذكاء أو التفوق في تلك الفترة كان في حد ذاته تهمة.

أذكر، يوم أحداث أبريل بالبيضاء، كانت قائمة من 12 طالبا متفوقا على ستة أقسام بكلية الزراعة، معلقة كإعلان من أجل إحضار جوازات السفر لإيفاد الطلاب الحاصلين على تقدير امتياز في دورة صيفية بإشراف منظمة الفاو، وكنتُ من بين الطلاب في القائمة، يوم الأحداث تم تمزيقها، ومن ثم استدعاؤنا بشكل تعسفي إلى إحدى القاعات، والتحقيق معنا، أذكر من ضمن المحققين هدى بن عامر، وسعد الدين بن عامر ويونس معافة، وطيلة ساعة كاملة من الاجتماع وطيلة اللقاء كانت تكال لنا الشتائم والألفاظ المقذعة دون هوادة، وكان يقال لنا بسخرية: أنتم حاصلون على تقدير ممتاز وتحلمون بأن تمثلوا الجماهيرية في الخارج، ولأن لا توقيع لديكم في المثابة من الطبيعي أن تتحصلوا على تقادير ممتاز، ولو آتينا بحمار يدرس فقط لتخرج بامتياز، الدراسة ليست غاية في حد ذاتها، وكنا مصدومين من هذا الاستجواب العنيف لأن لا جرم ارتكبناه سوى نجاحنا بتفوق.

حزنت كثيرا عندما سمعت بقصة الطالب المتفوق من درنة الذي لم ير أملا في استكمال دراسته إلا بطقوس الولاء للجماعة المهيمنة على مفاصل الدولة، حزنت كثيرا لأن النظام السابق في عقده الأخير تخلى بعض الشيء عن شرط الولاء وبدأ طلاب متفوقون تتاح لهم فرص استكمال تخصصاتهم، حزنت لأنه يبدو أننا سنبدأ من جديد ومن الصفر في تلك التصنيفات الغبية التي أودت بمجتمعنا إلى خسارات فادحة على جميع الأصعدة.

ولكن لا عجب فكثير من المؤشرات كانت تشير منذ البداية إلى ما يؤكد المثل الدارج: كنا كالهارب من الغولة إلى سلال القلوب. فالتقارب الذي حدث بين جماعة الأخوان الليبية والنظام السابق في عقديه الأخيرين يؤكد أنهما وجهان لعملة واحدة، ونظامان يتأسسان على ثقافة واحدة، تتمثل في مبدأ الفرز والتمييز، وفكرة الطاعة المطلقة، وأولوية الولاء الأديولوجي الأعمى عن أية اعتبارات أخرى، وعلى الإقصاء كوسيلة للانفراد بالنفوذ. فصلاحيات المرشد العام نفسها صلاحيات القائد الملهم، ومكتب الإرشاد شبيه بمكتب الاتصال باللجان الثورية، والجناح السياسي للجماعة المتمثل في حزب العدالة والبناء نفسه الجناح السياسي المتمثل في اللجان الثورية أو ما كان يسمى حزب اقلال الوالي، وميليشيات الجماعة والمسمى معظمها على أشخاص هي نفسها كتائب النظام السابق التي سميت على أشخاص ومنهم أبناؤه، والألاعيب نفسها تسم النظامين كالمتاجرة بالدين والمزايدة بمصطلحات مثل الثوار أو الشرعية الثورية. وبالتالي لا عجب أن تذهب التفاصيل اللاحقة إلى التشابه بما فيه فرص الدراسات العليا على حساب الدولة، لا عجب لكني حزين بعدما دفع هذا الشعب ثمنا باهظا من أجل حلمه بالعدالة الاجتماعية وتساوي الفرص.

في المحصلة كل ما حدث ويحدث في ليبيا، وليبيون من يفعلون أو لا يفعلون كل ذلك، هذا هو مجتمعنا بكل تناقضاته وتركيباته، لا يحق لي إقصاء أحد من حركة التاريخ، لكن يحق لي أن أقول كفى مزايدة، وكفى متاجرة بمصطلحات مثل الثورة أو الثوار أو الوطنية، كفى تقسيما لهذا المجتمع إلى ثوار وأزلام، إلى كفار ومؤمنين، كفى تفتيتا لهذا البناء المجتمعي عبر طبقات عازلة ومتكلسة تمنع انسياب السلام داخل هذا النسيج، كفى .. فقد دفعنا الثمن الباهظ من وقتنا ورفاهنا وحياتنا واستقرارنا وتقدمنا بسبب هذه التصنيفات الإقصائية التي جعلت من معايير الولاء بديلا للكفاءة والجدارة، فوضعت الانتهازيين وسماسرة الشعارات في واجهة إدارة المجتمع مثلما حدث ويحدث الآن.