Atwasat

ترحال: ثرثرة في باريس:هجرة، حيتان وأوطان

محمد الجويلي الثلاثاء 05 مايو 2015, 10:58 صباحا
محمد الجويلي

احتدم النقاش اليوم في ساحة المركز الثقافي ببوبور (Beaubourg) في سرّة باريس، الذي يحمل اسم الرئيس الفرنسي الراحل"جورج بومبيدو"ويعتبر أحد المعالم الحضارية والثقافية والسياحيّة للعاصمة الفرنسية، حول قضية الهجرة من جنوب المتوسط إلى شماله التي لم تعد في الحقيقة سرّية وإنّما علنيّة وفي وضح النهار منذ أمد بعيد إثر الإعلان عن إنقاذ أكثر من ثلاثة آلاف نسمة بالأمس فقط الموافق للثاني من مايو 2015 من الغرق في البحر الأبيض المتوسط.هذا النقاش هو مواصلة للجدل الذي مازال يقيم الرأي العام الأوروبي ولا يقعده إثر حادثة غرق مركب للمهاجرين الأفارقة والعرب قبالة سواحل ليبيا لقي على إثره ثمانمائة رقبة حتفهم منذ أيّام وما تبعه من اتخاذ قرارات على المستوى الأوروبي بمضاعفة ميزانية مراقبة هذه الهجرة والحدّ منها ومن أضرارها والذهاب إلى حدّ التهديد بتدمير مراكب سماسرة الهجرة في موانئها وقبل انطلاقها نحو الشمال! وهو قرار أجمع جلّ الحاضرين على عدم جدواه لأنّ"السارق ينتهي دائما بغلبة لحاحي" كما يقول المثل الشعبي ولا شيء في الحقيقة قادرا على أن يمنع شخصا استوت الحياة والموت في عينيه من تحدّي أيّ قوّة قاهرة ومهما قوت شوكتها كما أجمعوا على أنّه من الأجدر البحث عن حلول أخرى جذرية تعالج سبب العلّة ولا تكتفي بالنظر إلى المعلول.

للنقاش السياسي والفكري في ساحة هذا المركز تقاليد عريقة تعود إلى عقود من الزمن كنت عرضت لها في الحوار الطويل الذي أجراه معي الصحفي الجزائري الطيب ولد العروسي وصدر في كتاب بالقاهرة سنة 2003 عن دار ابن حزم بعنوان"ترحال الكلام في أربعين عاما وعام". الجديد في الأمر هو أنّ حلقات النقاش في ساحة"بوبور" المنشغلة بقضايا الإنسانية وعذاباتها القديمة والحديثة وتراجيدياتها المعاصرة قد تناقصت كثيرا مقارنة بما كانت عليه منذ أكثر من ثلاثين عاما وبدأت شيئا فشيئا تنزاح أكثر نحو أطراف الساحة وتبتعد عن وسطها وكأنّه كُتب على المسكوت عنه واللّامفكّر فيه وما لا ينبغي التفكير فيه أن يتمّ في الأطراف، في الهامش لا في المركز وبدأت هذه الحلقات تفقد بريقها وتستقطب أقلّ بكثير ممّن كانت تستقطبهم فيما مضى من العابرين والزائرين لمركز بومبيدو والتوّاقين لمعرفة ما لا تتيح لهم الكتب والثقافة العالمة معرفته وما لا يُمكن أن يستمعوا إليه من تحليل وتأويل إلّا على ألسنة مثقّفين مجانين"فقدوا كلّ شيء ما عدا العقل" على حد عبارة الفيلسوف الفرنسي"ميشال فوكو" في تعريفه للمجنون في كتابه الشهير"تاريخ الجنون في العصر الوسيط" ولعلّ ذلك يعود إلى العولمة ونتائجها البغيضة التي صيّرت الضمير العالمي عبدا للاستهلاك وللأنا الضيّقة ولعدم تجربة الأجيال الفرنسيّة والأوروبية الراهنة- كما كان حال آبائها وأجدادها الذين عاصروا أهوال الحرب العالميّة الثانية التي دارت رحاها الطاحنة في أراضيهم- لأهوال الحروب وما ينجرّ عنها من رعب وعوز وضنك عيش وبؤس المنزلة الإنسانيّة.

على أيّ حال لا داعي للمبالغة في التشاؤم، فقد هبّ الأوروبيون كالرجل الواحد هذه الأيّام داعين إلى وقف فصول تراجيديا الهجرة الحديثة المتوسطية في أكثر تعبيراتها مأساويّة كلا حسب قناعاته الفكرية والسياسيّة ودرجة وعيه والتزامه بقضايا الإنسان مهما كان، ما جعل البحر، بل قل"القبر الأبيض المتوسط" على حدّ تعبير الكاتب والأديب الليبي سالم العوكلي في مقال نشره ببوابة الوسط ويحمل هذا العنوان يوفّر مادة ثريّة ومتنوّعة للسينمائيين لإنتاج أكثر من تيتانيك(Titanic) كناية عن الباخرة الانجليزية التي غرقت في عرض المحيط الأطلسي في 14 أبريل سنة 1912 أي في نفس الشهر وقبل قرن تقريبا من غرق مركب المهاجرين المذكور، هذا الفيلم الذي أعاد إنتاج هذه الحادث، فملأ الدنيا وشغل الناس وأبكى العالم بأسره، خاصة في الغرب على من قضوا نحبهم منذ مائة عام والحال أنّه لا يكاد يمرّ يوم في المتوسّط دون غرق"تيتانيك" إفريقي تغرق معه مئات القصص الصالحة لما لا يُحصى ولا يُعدّ من الأفلام التي يمتزج فيها الحبّ بالموت، الألم بالأمل ويكتوي فيها أصحابها بنار الحرقة قبل أن يطفئها ماء البحر إلى الأبد دون أن يُكتب لها أن تُكتب وتُمثّل وتُخزّن في الذاكرة الإنسانية.

حلقة نقاش ساحة بومبيدو هي أحد مظاهر هذه الهبّة الفرنسيّة لتطارح قضيّة الهجرة والبحث عن السبل الكفيلة بوقف مسلسل هذه التراجيديا المتوسطية التي تمثّل، كما قال أحد الحاضرين، وصمة عار في جبين كلّ متوسّطي. تكمن طرافة الحلقة كما هو شأن حلقات النقاش العفويّة التي تعقد في"بوبور" في أنّك تستمع فيها إلى ما لا يمكن أن يخطر لك على بال من عجائب التفسيرات وغرائب التحاليل والمقترحات وما لا يمكن أن تعثر له عن شبيه في الصحف وعن أثر في الإذاعات والقنوات لأنه، بكلّ بساطة وكما كنت أشرت إلى ذلك، قد تجري الحكمة على ألسنة المجانين. أحد الحاضرين اقترح أن تُرفع بأوروبا قضيّة في محكمة الجنايات الدوليّة تجبرها على تعويض الأفارقة والعرب من مستعمريها القدامى عن الأضرار المادية والمعنويّة التي لحقت بهم جرّاء الاستعمار، هذه التعويضات من شأنها أن تنهض باقتصادياتهم المنهكة وتجعلهم يتشبثون بالبقاء في أراضيهم الخصبة والصالحة للزراعة علاوة على ثرائها بالمعادن الثمينة، وعندما استنكر عليه أحدهم رأيه واصفا إيّاه بالمثاليّة واللاواقعية استشهد بقول للرئيس الفرنسي السابق"جاك شيراك" مازال موجودا كما قال على اليوتيب ومسجّلا بالصوت والصورة يعترف فيه بأنّ النقود التي تملأ حافظات نقودنا[أي الأوروبيين والفرنسيين] متأتية من اختلاسنا أموال الأفارقة اختلاسا لم يكفّ منذ قرون وأنّه حان الوقت للعدالة أن تقول كلمتها ونردّ هذه الأموال لأهلها، فكان من مجادله أن ردّ عليه"شيراك مريض ولا يؤخذ برأيه" فقال له"أنت المريض وليس شيراك لأنّ الحقيقة أمامك وأنت لا تراها لحَوَل في عينيك". من حسن الحظّ أنْ قاطع أحدهم المتجادليْن حتّى لا يتحوّل العراك باللّسان إلى تدافع وخناق ليقترح بديلا آخر للهجرة نحو أوروبا. لا حلّ، على حدّ اعتقاده، للأفارقة وللعرب الفقراء من شمال إفريقيا ومن البلدان التي تطحنها الفتن الطائفيّة والقبليّة إلّا قطع الصلة نهائيّا مع الغرب الصناعي ومقاطعة منتوجاته والعودة إلى نمط العيش ما قبل الصناعي كما عاش أجدادهم بفلح الأرض وتربية الماشية والصيد في البحر فقط وبذلك يضربون عصفورين بحجر واحد: يعيشون هانئين ويطوّرون مهاراتهم التقنية بمفردهم عوض أن يضطرّوا لاستيراد تقنية ليست من إنتاج عقولهم وصنع سواعدهم وتبعا لذلك لا يضطرّون للهجرة والمخاطرة بأرواحهم في البحر ويحقّقون السلم الأهليّة كذلك لأنّ الفتنة التي دبّت فيهم هي من نتائج انخراطهم في المنظومة الحديثة التي يرعاها الغرب.

"خرّف- أجابه أحدهم- أنت تريد أن تدير عجلة التاريخ إلى الوراء. الحلّ هو في ثورة عالميّة تزيل الحدود بين الشعوب والأمم أي عالم دون حدود وتضمن حرّية التنقّل دون تأشيرات في أرض اللّه الواسعة، هذه الثورة ينبغي أن تكون سلميّة يقودها طلّاب المدارس والجامعات والمدرّسون والأطبّاء والمثقفون والجمعيات المدنيّة الأمميّة لإجبار منظمة الأمم المتّحدةعلى أن تتحوّل إلى دولة كونيّة، بحيث يصير في العالم دولة واحدة ذات علم واحد تكون، لِما لا عاصمتها نيويورك والأفضل باريس تذوب فيها كلّ الدول وتتحوّل إلى مجرّد محافظات ويُنتخب رئيسها وولاة محافظاتها من قِبل برلمان منتخب بدوره من كلّ شعوب العالم ومن ثمّة لم يعد هنالك معنى للهجرة أصلا ولم يتوقف عن الكلام إلّا حين قاطعته امرأة مبتسمة ولعلّها متهكّمة "تعني عالما دون حدود كجمعية أطبّاء دون حدود أو صحافيين دون حدود. أ ليس كذلك !".

انصرفت مبتسما والبسمة أوالضحكة، كما تقول الحكمة الشعبيّة، يمكن أن تداهمك دون استئذان حتّى"وأنت على رأس الميّت"

انصرفت مبتسما والبسمة أوالضحكة، كما تقول الحكمة الشعبيّة، يمكن أن تداهمك دون استئذان حتّى"وأنت على رأس الميّت" أي حذوه كما أنّها يمكن أن تتولّد مثلها في ذلك مثل الأفكار النبيلة من رحم المحن والمشاهد العظمى(Les grands spectacles) كما يقول الرحّالة والأديب الفرنسي الشهير شاتوبريان (Chteaubriand) ناطقا بهذه الكلمات وهو يعيش لمدة 42 يوما بالتمام والكمال "بين الحياة والموت" على حدّ تعبيره(Œuvres romanesques et Voyages,Paris,Gallimard,1969,p.1159-60) محنة التهديد بالغرق في البحر الأبيض المتوسط ذات شتاء 1806 متوجّها من الإسكندرية إلى تونس تتقاذف مركبه الذي صار على حدّ وصفه"كالريشة على سطح غدير من الماء"( ص.1160)الأمواج العاتية والعواصف المائيّة الهوجاء بين خليج سرت وجزيرتي لامبدوزا الإيطالية ومالطة والجزراليونانيّة المنسيّة قبل أن يحطّ به في آخر المطاف في ساحل جزيرة قرقنة التونسيّة بعد أن دبّ في نفسه ونفوس مرافقيه اليأس التام من أي أمل في النجاة عبّر عنه في قوله"إنّ الشكّ في مصيرك يمنح الأشياء قيمتها الحقيقية. تشبه اليابسة وأنت تتأمّلها في عرض البحر الهائج المضطرب الحياة كما يتمثّلها إنسان ينتظر موتا محقّقا"(ص.1161). شاتوبريان الذي سلك نفس المسلك تقريبا الذي يسلكه المهاجرون العرب والأفارقة كُتبت له النجاة ودوّن معاناته في أسلوب أدبيّ وسردي وحِكمي في واحدة من أروع الآثار الأدبية العالميّة حول البحر وأهواله لا يقدر عليه إلّا الأدباء الكبار. لم يطفئ تهديد البحر المزبد الهائج والموت المحدق القادم الابتسامة في شفتيه وهو يتهكّم على قبطان سفينته الإيطالي المذعور العاجز عن المبادرة الذي يكتفي كلّما نصحه الكاتب بمحاولة البحث عن سبيل للنجاة"كعادته يكتفي قبطان السفينة بالقول أنا خائف! أنا خائف!Ho paura ثم Ho paura !. ثمّ يذهب لينام "( ص.1159) ولا حسّه الإنساني المرهف الذي لا يخلو قًطُّ من دعابة وهزل" بعد أن حللنا-يقول- على شاطئ قرقنة ونجونا من الغرق وتزامن ذلك مع أعياد الميلاد ذبحنا كلّ ما تبقّى لنا من الدجاج، ماعدا ديك شهم كان وفيّا لعادته طيلة رحلتنا في إيقاظنا من النوم باكرا ولم يكفّ عن الغناء في أحلك الفترات العصيبة التي مررنا بها"(ص.1161) .

كُتب أيضا الرسالة التي ودّع فيها الحياة والعالم مدوّنا"أنا شاتوبريان غرقت في ساحل جزيرة لمبدوزا في 28ديسمبر 1806 وأنا قادم من الأرض المقدّسة "( ص.1160) قبل أن يضعها في قارورة ويحكم غلقها لرميها في البحر في اللحظة الحاسمة أي قبل أن تزهق روحه آخر جرعة ماء متوسّطيّة أن تحطّ معه على يابسة جزيرة قرقنة وهو ما لم يُكتب للشاب السوري الذي حطّت رسالته في قارورتها وحدها تبكيه وتنعاه على شاطئ مجهول يودّع فيها والدته مضيفا- وهذا ما لا يمكن أن تجود به عبقريّة الأديب الفرنسي الارستقراطي الذي كان على أيّ حال كشّافا رحّالة وليس فارّا من جحيم فتنة ومولودا من رحم التراجيديا العربيّة الحديثة التي فاقت في دراميتها وفاجعتها التراجيديا الإغريقية حبكة وخيالا -"أمّاه. لك محبّتي كلّها وشكرا لك على كلّ الحبّ الذي غمرتني به.... لا أنسى كذلك التوجّه بالشكر الجزيل للأسماك التي ستنهش جسمي وتلتهمه فقد مكّنتني من أن أجد في بطونها مأوى".

هكذا في عالم اليوم صارت الحيتان أرحم من الأوطان!