Atwasat

القبر الأبيض المتوسط

سالم العوكلي الثلاثاء 28 أبريل 2015, 02:44 مساء
سالم العوكلي

شهدت القرون، منذ الثالث عشر، هجرةً إجبارية للأفارقة إلى حضارات الغرب المنتعشة، لم تسمَ أبدا هجرات غير شرعية، لأن الأفارقة كان يقبض عليهم ويرحلون مكبلين مثل القطعان إلى ضفاف العالم المتحضر الذي احتاجهم من أجل نهضته، ومع بدايات القرن التاسع عشر حتى القرن العشرين بدأت الهجرات المتواصلة من الشمال إلى الجنوب، من أوروبا إلى إفريقيا، وهي هجرات لم تسم أبدا غير شرعية لأن السفن الحربية والتجارية كانت تنقل مئات الألوف من المدججين بالسلاح لاحتلال الجنوب، إنها هجرات شرعية مادام النزوح يتم من أقاليم القوة إلى أقاليم الضعف، ومادامت تحمل شعارات التحضر والتنمية، وتنطلق من فكرة تفوق جنس بشري معين. حطت تلك السفن على شواطئ أفريقيا من كل الاتجاهات، وعينُ الاستعمار الاستثمارية على كنوز تلك الأراضي البكر التي تعاملوا معها كأرض سائبة تهيم فيها قطعان من البشر المتخلفين.

وظلت موجات الهجرة والنزوح ديدن المجتمعات البشرية فوق هذه الأرض، ومثل الانتشار الأسموزي ينتقل البشر من الوسط الأكثر كثافة للوسط الأقل، غير أن في العقود الأخيرة، وبعد موجة التحرر من الاستعمار، سيلحق الكثيرون بمستعمريهم القدماء ، ليشهد البحر المتوسط هجرات عكسية كثيفة، تسمى هجرات غير شرعية لأنها عكسية، ولأن الهجرة لا تكون شرعية إلا حين تكون من الشمال الغني إلى الجنوب الفقير.

يهاجر الجنوبيون في قوارب متهالكة لا أسلحة معهم ولا حتى حقائب، موعودين بفردوس في الشمال يجعلهم على الأقل قادرين على الاستمرار في الحياة، وكأنهم يتبعون كنوزهم المسروقة التي ازدهرت بها أوروبا، وكأنهم يختارون هذه المرة العبودية عن طيب خاطر، لكن الآلاف يبتلعهم البحر وهم في برزخ الرحيل، تطفو أجسادهم على شواطئ المتوسط منتفخة كدلافين فتك بها تلوث العصر، لنعايش إحدى أعظم مآسي العالم التي مازالت تحتكرها الأخبار العابرة وبعيدة عن ضمير الكتابة التوثيقية والفنية القادرة على تأريخ محتوى هذه الكارثة الإنساني عبر رصد آلام وأشواق وأحلام ضحاياها، بدل أن تكون مجرد مادة إخبارية تتعامل مع البشر ككتل مترحلة دون ملامح ودون أرواح تحن إلى الحياة بكرامة.
في التسعينيات من القرن الماضي حدثني الصديق الكاتب الأريتري أبوبكر حامد الذي أقام في طرابلس لما يقارب الربع قرن، عن محاولاته الهجرة إلى أوروبا التي كانت على أشدها برعاية النظام آنذاك وسماسرتُه رجالُ أمن برتب كبيرة، تطبيقا لمقولة القذافي الشهيرة"السود سيسودون في العالم"، ومن خلال هذه التجربة كتب الروائي أبوبكر حامد روايته المميزة"تيتانيكات إفريقية"، يرصد فيها تلك الثيمات الإنسانية العميقة في خضم هذا النزوح الذي لا تتعاطى معه سوى المؤسسات الأمنية والإعلامية. 

تتحرى هذه الرواية تراجيديا المهاجرين الأفارقة إلى الضفاف الأخرى، موضوع طالما كان أحد أخبار النشرات حيث الفرجة الباردة على جثث الحالمين وهي تنتشل من البحر، فضلاً عن كونه غدا إحدى المسائل الأمنية بين ضفتي المتوسط، عُقدت حولها العديد من الاتفاقيات الأمنية والندوات الإجرائية ، لكنني بمجرد أن قرأت الرواية وجدت نفسي أمام عمل روائي حقيقي، ينبش في إحدى الأزمات الإنسانية الراهنة، التي تثير الفزع والشفقة في الوقت نفسه.. تراجيديا نزوح جماعي لم تتعامل معه سوى الميديا الإعلامية ببرودها المعتاد، والتي حولته إلى خبر عاجل في نشرات الأخبار، يشبه إلى حد كبير أخبار زحف الجراد من الجنوب إلى الشمال.

 الآلاف يبتلعهم البحر وهم في برزخ الرحيل، تطفو أجسادهم على شواطئ المتوسط منتفخة كدلافين فتك بها تلوث العصر

(تيتانيكات إفريقية ) يشكل هذا العنوان مدخلاً رئيسياً للعمل، فتيتانيكات تحيلنا إلى مأساة السفينة الشهيرة التي غرقت في المحيط وخلدتها السينما كحادثة منتقاة عن الكثير من المآسي التي ابتلعها البحر، لكن ارتباط هذه المفردة بـ(إفريقية) يحيلنا إلى جغرافيا أخرى وإلى مأساة تتكرر وتأتي في صيغة الجمع، ثمة ما يتكرر دون أن يصل إلى ضمير العالم، وربما السبب كونه لم يتحول إلى عمل فني يخترق التاريخ البارد والميديا المحايدة.

وإذ تبدأ الرواية بعبارة(كنت مرهقاً من التجوال والمشاوير الكثيرة لمقابلة سماسرة التهريب) فإنها تشير إلى ظهور مهنة جديدة ترتزق من رغبة الهروب من الوطن ومن القارة، فلكل مأساة تجارها الذين يعرضون الخدمات حتى وإن كانت على بوابة الموت. هؤلاء السماسرة يستعيرون من جديد مهنة تجار الرقيق، وإن كانت الأحوال مختلفة فإن المصير أكثر قسوة. كان رحيل الرقيق إجبارياً وكان تمسكهم بالوطن أسطورياً، أما في حالة سماسرة التهريب فالرحيل اختياري، بل وبرغبة لا توقفها كل الأساطير التي أدخلها الروائي في نسيج الرواية.

ولكن من أين تنبع قوة هذه الرغبة؟ كيف يمكن لهذه الحشود المهاجرة أن تلقي بنفسها في قلب الموت من أجل بصيص أمل شاحب هناك؟
يتحدث الراوي عن جرس عملاق يرن في إفريقيا، مكتسحاً سمع التائهين، ومنادياً أن هلموا إلى الفردوس، وإذا كان قد صم أذنيه عن هذا الجرس فترة من الزمن فيما يسميه"السنوات المحمية أو المسيجة" التي بقى فيها عقله بمأمن عن الاستجابة للسحر، حيث كان في حماية أفكار مسرحية كتبها في تلك الفترة، إلا أنه سقط أخيراً في فتنة هذا الجرس الذي أججت رنينَه الأخبارُ المزيفةُ التي يرسلها من وصلوا إلى الضفة الأخرى، وذلك النداء البهيج من الجنة البعيدة.. هكذا بدأت الرواية ترصد سحر الجرس الذي لا يأبه لأخبار الجثث التي تنتشل كل يوم مشوهة من البحر، مقارناً هذا الجرس بجرس أسطوري قديم، جرس الساحر الذي يغزو به مدينة أوروبية فيتبع الأطفال رنينه أينما حل، سارداً ملحمة الأمهات الأوروبيات اللائي يحاولن حماية أطفالهن من سحر الجرس.

في ملحمة جلجامش يتطلب الأمر الكثير من المصاعب للوصول إلى عشبة الخلود، فردوس الإنسان الأول الذي أرقه الموت، لكن ملحمة هذه الرواية تغامر بالموت نفسه من أجل الوصول إلى حياة تنتجها المخيلة، وعلى المهاجر أن يقطع الصحراء والبحر كي يصل.

لذلك كانت المغامرة الأولى في صحراء يملؤها العطش وقطاع الطرق عبر الصحراء، وفي الأمكنة التي يجهزها سماسرة التهريب لتجميع المهاجرين يتحقق نوع جديد من التشابه والعلاقات الملتبسة، لغة الحنين والأمل مشتركة حتى وإن اختلفت الألسن، تكفي إيماءة تشير إلى الشمال كي يتم التفاهم، أو إيماءة تشير إلى الدولار كي يتقاتل رفاق الرحلة وتتناثر الجثث فوق الرمال.

تمنح الرواية سماسرة التهريب عِرْقاً من الإنسانية المختلة يعاند رهاب الصحراء والبحر، ويجعلهم حلقة أخرى من المكيدة التي تتدبرها قسوة الحياة وتجهّم الروح في أدغال الخوف، ويغدو كل شيء في ظل التآمر مشروع ارتداد عن الحلم، أو بمعنى آخر تصورهم كسدنة للجحيم يقتاتون على البرزخ المؤدي إلى الفردوس، وكل الأخبار التي تصل عن غرق المراكب لا تلوي إرادة المغامرة، فثمة عين معلقة بألبوم من وصل والتقط صورة بقرب سيارة فارهة باعتبارها عربته في الجنة، ويحشد الجميع طاقاتهم من أجل ساعة الصفر التي تنزاح مراراً، يتدحرج الجميع خلف جرس الساحر وتعجز أحضان الأمهات عن حماية أبنائهن، ولا يبقى سوى تنصت الآذان الأرِقة على وقع أحذية الشرطة، وكل من وقع فريسة المداهمة عليه أن يدفع الثمن عذاباً أولاً ومن ثم يعاد من حيث بدأ مثل لعبة الثعبان والسلم.

لا تسعى هذه الرواية إلى التشويق التقليدي، ولا إلى وثائقية الخبر المهيمن، ولا إلى تكريس الحزن كنهاية تطهرية، لكنها تسعى إلى الدفاع عن الكائن البشري، عن رغباته وكفره وضعفه وهزيمته، وعن أغانيه التي يكابد بها التيه في هذه الأرض التي تحولت إلى زنزانة كبيرة، حيث لا يجد الإنسان المطارد مكاناً يهرب إليه. 

الآن بعد مضي عقد على كتابة هذه الرواية، وبعدما مرت به المنطقة من خلخلة شاملة، في القيم وفي البنية الديموغرافية، تزداد وتيرة الهروب الجماعي، ويزدهر عمل سماسرة تهريب البشر، وتلفظ الكارثة التي تحل بالمنطقة برمتها ضحاياها إلى المصير المحتوم. البحر أمامهم والإرهاب وراءهم. ولا يقتصر الأمر هذه المرة على الأفارقة الذين يلحقون بعظام أجدادهم الذين سبقوهم مكبلين في القرون الماضية وبيعوا في سوق النخاسة، لكنه يمتد إلى مجتمعات حلت بها الكارثة مثل سوريا وفلسطين وليبيا والعراق واليمن وغيرها، وتدخل الشواطئ التركية على خط التهريب رغم استقرار تركيا، غير أن للكوارث تجارها الذين يكدسون أموالهم في الوقت التي تتكدس فيه الجثث على الشواطئ، والضمير الأوروبي الخجول يحاول أن يعلن عن نفسه بمشاهد إنقاذ للقلة المحظوظة، ولأن الجراد حين كان يهاجر إلى الشمال عبر البحر، يضحي بنصفه كي يصل النصف الآخر إلى الضفة الأخرى، يبدو أن هذا هو قدر البشر الذين حولهم الفقر والحروب إلى حشرات زاحفة إلى حيث المأمن.

من أين تنبع قوة هذه الرغبة؟ كيف يمكن لهذه الحشود المهاجرة أن تلقي بنفسها في قلب الموت من أجل بصيص أمل شاحب هناك؟

 اقترحت مرة على الروائي أبوبكر أن يكتب الجزء الثاني من روايته عن أحوال المهاجرين الذين حالفهم الحظ ووصلوا، هل تحققت أحلامهم؟ هل وصلوا إلى الجنة على الأرض فعلا، أم أنهم تحولوا إلى عبيد بإرادتهم؟ عبيد دون حبال تربطهم ودون سوق تعرضهم، يعملون في المزارع بأدنى الأجور معرضين للمداهمة في أية لحظة. هذا حين كان معظم أوروبا محكوما بأحزاب معتدلة، فكيف هو مصيرهم واليمين العنصري يجتاح صناديق الاقتراع؟ وما مصير نظريات الإدماج، والمهاجرون متهمون بحملهم لجرثومة الإرهاب؟.

يغرق 800 إنسان مرة واحدة، في كارثة تشبه كارثة التيتانيك، ويمر الخبر، ويعلن الاتحاد الأوروبي عن خطورة الوضع الأمني والإنساني، ويقترح مهاجمة أوكار المهربين، غير أن الملقين بأنفسهم في البحر في شبه عملية انتحار جماعي لن يتوقفوا عن المغامرة، لأن طنين الجرس الأسطوري لا يتوقف في آذانهم، ولأن ما وراءهم أكثر قسوة من الموت غرقاً، تقودهم المجازفة وحلم العيش بكرامة، دون أن يدركوا أن الشمال المتوجس من الغرباء عاودته وساوسه القديمة، وهو كل يوم يكشف مخططا إرهابيا تجاه مواطنيه، يكسب اليمين المتشدد من كل هذا أفضل دعاية لبرنامجه الانتخابي، فيقفز فجأة إلى المراتب الأولى في عديد من الدول التي أخفق فيها مراراً. 

ويشتد الوسواس حين يرمى متشددون عدداً من المسيحيين من قارب الهجرة في البحر، دون أن يتوقع أحد منهم أن يُسأل عن دينه في قلب بحر هائج وفي قارب متهالك تتلاعب به العواصف. الجميع معرض للموت لكن حين يكون البحر أمامك والإرهاب معك في نفس القارب فثمة موت آخر يتربص داخل رحلة الموت.

كيف تفكر في قتل أحد وأنت على حافة الموت معه؟ سؤال يتجاوز خيال الروائي وحدس الفانتازيا مهما غالت. ويظل الفقر هو المؤلف الحصيف لكل هذا الخيال، والحاضن الوفي لكل تشوهات الجنس البشري.

ولن يهدأ العالم طالما الفقر المدقع، مصنع الموت الكبير، يغطي صخب آلاته كل صوت داع للسلام.