Atwasat

غونتر غراس… رحيل ضمير موازٍ

نورالدين خليفة النمر الثلاثاء 28 أبريل 2015, 02:39 مساء
نورالدين خليفة النمر

تنثال على المرء الانشغالات الليبية ومصائرها العبثية المرتبط بها، للأسف، مصيره وهو يكتب في الفقدانات ويفكر في الغيابات التي أبرزها الغياب الظاهر لما يمكن تسمّيته(بالثقافة الضميرية) التي يشكّل فقدانها، ضمن فقدانات عدّة، مساسا بالمنظومة القيمية المعرفية وإبهاظا لها والمفترض في أساسها الأدنى، إذا مازال موجودا في حياتنا المجتمعية، قيامها بتوجيه سلوكياتنا أفرادا، ونخبا في المجال المتعارف عليه بالشأن العام الذي تسوده اليوم في منطقتنا الشرق الأوسطية عموما وليبيا خاصّة التي تشكّل نموذجا صارخا لبيئة مفكّكة تسودها وبشكل حادّ خطابات مصطنعة مؤسسة على تأجيج عوامل الانقسام المجتمعي والتحريض على العنف والقتل والعبث بمصائر الإنسان وبث روح الكراهية والإفساد بين أفراد المجتمع. كل ذلك انثال على ذهني وأنا بصدد الكتابة في رثاء(غونتر غراس) الكاتب الألماني الذي غيّبه الموت في 13من شهر أبريل الحالي 2015 ناعيا وأنا أكتب في رحيله غياب فعالية ضميرية، تعدّت الشعور العام والمجرّد بعقدة الذنب التاريخي، تجاوبا بل خضوعا لإملاءات السياسة وابتزازها، لتصوغ ضميرا ثقافيا موازيا يمكن عدّه تمثّلا ألمانيا هو واحد من صياغات المواجهة مع الذات انحيازا في صفّ الآخر الضحية والاعتراف بالخطأ وتعريته تحررا من أعبائه على المشاعر والضمائر .

في هذه المهمة المصيرية لم يكن الكاتب غونتر غراس وحده، فقد رافقه كتّاب آخرون من جيله في ألمانيا: أمثال:(هينرش بول) الذي تفوقت أعماله المتميّزة بروحها وشفافية واقعيتها الساخرةعن كتابات غراس في كسب عدد كبير من القراء في ألمانيا مابعد الحرب التي قسّمها جدار الأيديولوجيا السياسية وإكراهاته إلى ألمانيتين والتأثير فيهم برواياته وقصصه كـ(عندما اندلعت الحرب، و صورة جماعية مع سيدة ، وشرف كاتارينا بلوم الضائع…. وغيرها). وكاتبين آخرين لم ينالا شهرتي هينرش بول وغونتر غراس داخل ألمانيا وخارجها هما:(آرنو شميدت) الذي صدمت التجريبية المكاشفة لكتاباته ونخبويتها القراء الألمان كـ(ليفياتان- التنين ، وجذاذة حلم، ومنظر بحيرة بوكاهونتاس)، وأيضا الكاتب(فولفغانغ كوبن) الذي عزله انكسار روحي، ودرامي في حياته الخاصّة عن التواصل مع القراء الألمان، و يرجع فضل التعريف بثلاثيته الروائية: (حمام في العشّب، و البيت الطارد، والموت في روما) بعد وفاته لناقد الأدب المعروف (مارسل رايش- رانيسكي) .

في هذه المهمة المصيرية لم يكن الكاتب غونتر غراس وحده، فقد رافقه كتّاب آخرون من جيله في ألمانيا

غونتر غراس وقد تجاوز بسنة عمره الثلاثين في ـ عام 1959سيتبوأ بكتابته لروايته (الطبل الصفيح ) المكانة المتميّزة بين أقرانه من الكتّاب الألمان الذين عدا عن تعبيرهم في كتاباتهم عن خيبة الأمل الذاتية لجيلهم في مواجهة كوارث الحرب، والتغلّب على إشكالات البداية الجديدة للحياة؛ فإنهم أسسوا للضمير النقّدي لمابعد سقوط(الرايخ الثالث) وما تلاه من صعود للحقبة النازية التي كانت تبعاتها اشتعال حرب عالمية ثانية حطّمت خسارتها المانيا، وحاق تدميرها ببلدان أوروبية أخرى. بل إن كارثتها الحربية تعدّت لتشمل- وهو مايغيب عن الذاكرة العربية ـــ الليبية المثقوبة بالنسيان ــ الليبين ضمن شعوب أخرى في بقاع عديدة من العالم لتكويهم في بداية أربعينيات القرن الـ 20 بلظى حروبها التي سميّت بالعالمية من النقطة الصحراوية في(سيدي البرّاني) وعبر مدائن الشرق الليبي من طبرق حتى بنغازي التي دكّت وانتهكت ـ كما تدّك وتنتهك الآن بصواريخ الأخوة الأعداءـ مرتين في تبادل الاحتلالات بين قوات المحور(الألمانية ـ الإيطالية) وقوات الحلفاء من(الإنجليز ومناصريهم). بل إن رعاة بدوا وسيّارات من(سيدي البرّاني) وحتى طبرق مازالوا يسقطون حتى اليوم ضحايا لألغامها التي مازالت مزروعة في رمال الصحراء الليبية الممتدة .

إلا أن اللغم الفادح الضرر كان العته الكاريزمي للزعيم النازي أدولف هتلر الذي ألهم الدكتاتور القذافي أسوة بدكتاتوري العالم الثالث أمثاله، بعد أشهر من نجاح انقلابه العسكري أن يكتب مقالا افتتاحيا سقيما دون أن يحتاج توقيعه باسمه ليسلّم القراء النابهون وقت ذاك بأنه كاتبه أو موصٍ بكتابته في(جريدة الجندي) المستحدثة بعد انقلاب الجيش على الملكية في ليبيا عام 1969 مبديا فيه إعجابه بشخص أدولف هتلر مستنسخا جنونه، ورؤاه المدمّرة التي عانى الليبيون تبعاتها ماضيا دكتاتوريا مظلما يكون نبشه هذه الآيام مثل نبش الماضي النازي المبغوض الذي وصفه غونتر غراس عام2002 في روايته(مشية السرطان): بالمرحاض المسدود الذي كلّما ضغط المرء على سحّاب الماء فيه، صعد الخراء إلى الأعلى .

ولكن ماهو الضمير الذي ضادّه ضمير غونتر غراس وأقرانه من الأدباء والمفكرين وسار بالتوازي مشتبكا معه كنبّي عبراني غاضب حتى وفاته اختلافا وفضحا لاهوادة فيه؟ إنه الضمير الذي يمكننا وصفه(بالهيدغري) نسبة إلى الفيلسوف الألماني(مارتن هيدغر)، الذي ألهمت فلسفته الوجودية ومفكرّي ألمانيا والغرب في القرن العشرين وأثرت فيهم، من أمثال(ياسبرز ، وماركوزة، وحنّا آرنت ،والفرنسيين مارسل، وسارتر الذي تسربت التأثيرات الوجودية الهيدغرية عبر كتاباته الفلسفية والأدبية إلى الأجيال الأدبية العربية المعاصرة الذين ألهمت إحساسهم بالوجود لأجل الحرية تجارب الاستقلال عن الاستعمار والثورة في خمسينيات القرن 20 لتأتي بعدها الهزيمة العربية أمام إسرائيل عام 1967 فتعمّق شعورهم بمتاهة القلق والضياع.

لقد اعتمد الضميرالهيدغري سلوك المواربة والمرواغة دون اعترافه بالذنب؛ بل تعدى ذلك إلى استدعاء الذرائع لتبريره، وهو مامثّل خرقا للأخلاقية التي أسسها الفيلسوف(كانط) على الضمير شعورا بالواجب فيما أسماه بالضميرية المتعالية أو(الترانسندنتالية)، التي كانت أخلاقيات المكابرة الهيدغرية النقيض السلبي لها، فهيدغر لم يتطرّق بتاتا لعلاقته المؤسفة بالنازيّة. وحتّى الحوار المطوّل الذي أجرته معه مجلّة(دير شبيغل) سنة 1966 الألمانية والذي تضمّن حديثا مستفيضا عن الفترة النازية وعن دوره فيها، ولم ينشر إلاّ بعد وفاته في 31 مايو 1976، احتراما لوصيّته، وخضوعا لسطوته المعنوية التي يتبيّنها المرء من طريقة أسئلة الصحفيين( رودولف اغستاين وغيورغ فولف)، ومرورهما على التبريرات التي أوردها لمافعله وكتبه في النازية مثل الجملة التي وردت بقلمه في الصحيفة المحلية لطلبة فرايبورغ،عام 1933والتي تقول"لا تدع النظريات والأفكار تصبح قواعد لكينونتك... الزعيم(الفوهرر) نفسه ووحده هو حاضر ومستقبل الواقع الألماني وقوانينه" مرورا محتشما.

لايحّق لنا نحن الأغراب عن اللغة الألمانية  أن نكتب في الإضافة التي أحدثها غونتر غراس في أسلوبية وبلاغة هذه اللغة 

ويلحظها أيضا في المراسلة التي تمّت بينه وبين تلميذه الفيلسوف هربرت ماركوزة الذي لجأ إلى أميركا بسبب الهيمنة النازية في ألمانيا فلا نجد في أسلوب ردّ هيدغر المباشر والمقتضب والقاطع على تساؤلات ماركوزة في هذا الشأن تبريرا بل توضيحا صادرا عن شخص يدرك جيّدا ما يقوله. ثمّ إنّ بعض العبارات والجمل تمثّل اعترافا بإيمان، ولو مؤقّت، بالنازيّة توقعّا منها تجديدا روحيا للحياة بأكملها فضلا عن نزعة قومية واضحة تكون مصالحة للتناقضات الاجتماعيّة وإنقاذا للكيان الغربي من مخاطر الشيوعية.

نازّية هيدغر..التي كانت لدّي عنها معلومات مغبّشة لدى قدومي للدراسة في ألمانيا عام 1992هي: الجملة التي قذفها معلّم اللغة الألمانية في مدينة بريمن في وجهي، ممتعضا، وهو ما سبّب لي إحراجا أمامه عندما أبديت إعجابي- وهو مازال حتى اليوم- ببعض من مناحي فلسفة هيدغر وولعي بطرائق تفكيره في الكتابة منذ اطلاعي بالصدفة عام 1971 وأنا تلميذ بالثانوية على كتابه:(ماالفلسفة؟ وهلدرلن وماهية الشعر) الذي ترجمه عن الفرنسية الفيلسوف الجوّاني المصري عثمان أمين وأهداه إلى طلاّبه الليبيين الذين درّسهم بقسم الفلسفة بكليةآداب بنغازي- الذي يشرفني الانتساب إليه- في ستينيات القرن الماضي.

لايحّق لنا نحن الأغراب عن اللغة الألمانية حتى وإن لممنا على كبر بطيف من قوس قزحها أن نكتب في الإضافة التي أحدثها الراحل غونتر غراس في أسلوبية وبلاغة هذه اللغة فتقييم ذلك مهمة سيضطلع بها الألمان وقد حرّرهم موت(غراس) مما وصفه الروائي الأميركي (جون أرفنج) بعماهم المماحك إزاءه. ولكننا نستطيع بناء على خبراتنا في تاريخ المخيّلة الأدبية المقارنة أن نرصد المقاربة السياسية والفكرية التي قارفها في مخيّلة أدب الحداثة والتي غالبا مايجسّدها الكاتب الروائي عموما في شخص بطله أو نموذجه كما نقول دون كيشوت... سرفانتس، وأحدب نوتردام... هيجو، وإيما بوفاري… فلوبير، وأبله... ديستويفسكي، ويوسف. ك…. كافكا، ...إلخ. فإننا وعلى هذا المنوال نستطيع أن نقول من قزم…غونتر غراس: أوسكار ماتسارت قارع الطبل الصفيح الذي انزاح باستعارته أدبيا الكاتب غونتر غراس وفيلميا المخرج السينمائي الألماني(فولكر أيشندروف) مختزلين إياها في صورة-أيقونة ببعديها الملهمين: الغروتسكي- وامتداده الواقعي السحري في روايات الهندي البريطاني سلمان رشدي، والبيكارسيكي picaresque(الشُطَّاري) في روايات الأميريكي جون أرفنج.

إنّه لمن المؤكد أن غونتر غراس سيكون آخر الراحلين من كتاب مدّوا بكتاباتهم دروب شجاعة شقت أخاديدَها ومازالت تشّقها في الضمير المجتمعي الأوروبي ـ الغربي الحديث أمثال (برتراند رسل، وجان بول سارتر، وجان جينيه) وهو ما أكدّه ذلك الكاتب العالمي(سلمان رشدي) في مرثيته له يوم وفاته في الـ(نيويوركر) معبرا عن فداحة خسارته له ليس فقط كونه معجبا بكتابته بل لحبه له شخصا بسبب مرحه في سياق جديته، وبسبب كوميدياه السوداء التي استخدمها في امتحان العالم، وبسبب شجاعته غير القابلة للنسيان في النظر في وجه الشر الكبير خلال عصره، محوّ لا المسكوت عنه إلى فن عظيم.

* grotesque في الأدب، كتابة تقوم على تحويل الملامح أو السلوك على نحو يخلق تنافرا يفضي إلى خلق شعور بالخوف او الملهاة. (المحرر).
** picaresque تناظر في الأدب العربي ما يطلق عليه حكايات العيارين والشطار والمُكدِّين، أي الأفاقين أصحاب الحيل والمقالب.(المحرر).