Atwasat

مفعول الأخ الأكبر

عمر أبو القاسم الككلي السبت 18 أبريل 2015, 09:15 صباحا
عمر أبو القاسم الككلي

تنتهي أحداث رواية جورج أوريل الشهيرة «1984» بالمشهد التالي:

رفع نظره إلى الوجه الهائل. لقد استغرق أربعين سنة كي يعرف نوع الابتسامة المختفية تحت الشنب الأسود. أوه أيها القاسي، سوء فهم لا داعي له! أوه أيها العنيد، لقد نفيت نفسك من هذا الصدر الحنون! تحدرت دمعتان لهما رائحة [شراب] الجن [الذي كان يتناوله لحظتها] على جانبي أنفه. لكن لا بأس، لا بأس بالأمر كله، انتهى النضال. فلقد انتصر على ذاته. لقد أحب (الأخ الأكبر)*.

كان هذا ونستون، الشخصية الرئيسية في الرواية، بعد أن مر بتجربة مريرة من عذابات السجن والاضطهاد، وهو ينظر إلى صورة الزعيم. لقد آل الأمر إلى أن يستدخل القمع في أعماقه ويعتبر نفسه مخطئا وضالا وأن السلطة القامعة كانت محقة في معاملته بهذا الشكل!

وقبل السقوط المدوي لنظام القذافي بسنوات، حكى لي صديق عن تجربة مريرة تعرض لها في فترة من شبابه:

كان هذا الصديق من سكان إحدى البلدات القريبة من طرابلس وكان تردده على وسط طرابلس نادرا ومعرفته بشوارعها ومعالمها ومنشآتها محدودة جدا. في إحدى المرات التي كان فيها بطرابلس جذبت نظره فتاة تسير في الشارع. تتبعها إلى أن دخلت مبنى ضخما محروسا لا يوجد عليه ما يشير إلى هويته، فدفعه فضوله إلى أن يتقدم ويسأل أحد الحراس عن طبيعة هذا المكان، وإذ به يجد نفسه رهن الاعتقال!

كان المبنى مقر إذاعة «صوت الوطن العربي» وسؤاله هذا جعله محل اشتباه. قضى في المعتقل تحت الاستنطاق والتقصي والتعذيب ثلاثة أشهر، ثم أطلق سراحه (لحسن حظه، طبعا! لقد كانوا رؤوفين به. فلو تمت إحالته إلى «نيابة أمن الثورة» حينها لقضى سنوات عديدة في السجن!).

بساطته هذه واجهها عبث وسذاجة الجهة الأمنية التي اشتبهت به واعتقلته!

بساطته هذه واجهها عبث وسذاجة الجهة الأمنية التي اشتبهت به واعتقلته! وكأن الذين يستهدفون تفجير منشآت تابعة للنظام أو الدولة يجمعون عنها معلومات بهذه الغرارة، ومن حراسها!

لكن المثير في الأمر هو أن هذا الصديق، وبعد انقضاء حوالي ربع قرن على الواقعة، كان يدافع عن وجاهة سبب اعتقاله وأن الجهات الأمنية والنظام لا تظلم أحدًا! فمثله مثل ونستون في رواية «1984» قام باستدخال القمع في أعماقه جاعلاً نفسه «جانيًا» لأن ذاته يبهظها كونها ضحية!

وهذه، في ما يبدو، آلية من آليات الدفاع النفسي التي تحافظ على نوع من التوازن الذاتي. إنها، بشكل ما، تَمَسُّك بـ«معقولية الَعالم». فونستون وصديقي كان من الضروري لهما التسليم بأن معاناتهما كانت نتيجة خطأ منهما حفاظًا على الإحساس بأن الحياة ليست عبثًا وأن ما عانياه، حتى وإن كان لا يتناسب مع حجم خطأهما، إلا أنه ليس بدون أساس. فالشرارة التي أحدثت واقعة الحريق الذي طالهما صدرت عنهما، وإذن فالمسؤولية تقع عليهما.

لكنْ ثمة نوع آخر من استبطان القمع، لا يمر صاحبه بمعاناة قمعية محددة، يتمثل في التماهي بشخصية القامع. ليس في منهجه القمعي وممارساته القمعية، فقط، المنغرسة جذورها في التربة الثقافية للمجتمع، ولكن باستخدام نفس قوالب خطاب القامع. منذ أيام شاهدت على أحد الجدران كتابة تقول: من تحفتر [نسبة إلى حفتر المرتبط اسمه بـ«عملية الكرامة»] خان. وهو ما يذكر بأول عبارة شعارية قالها القذافي في أول خطاب له بعد انقلابه سنة 1969: لا حزبية بعد اليوم، ومن تحزب خان. وتم تبني الجزء الأخير منها ليصبح من مقولات الكتاب الأخضر.

هذا النوع من استبطان القمع لا يوجد فيه، بالطبع «تمسك بمعقولية العالم» وإنما تمسك، أو إعجاب، بفذاذة شخصية المستبد من قبل الذين أطاحوا به أنفسهم.

* الفقرة من ترجمتنا، وما بين الحاصرتين [ ] إقحام منا لإيضاح السياق.