Atwasat

عن ميدان الجرة والجعب!

محمد عقيلة العمامي الأربعاء 15 أبريل 2015, 09:57 صباحا
محمد عقيلة العمامي

قلت لكم من قبل: إن المواطن الكوري"كي وون يونج بال" أعفوه من الخدمة في جيش جمهورية كوريا الجنوبية، وعينوه سنة 1952 في قوة البوليس الوطني، حدث ذلك بعد تأسيس مدرسة العمال الليلية في بنغازي بسبع سنوات. كانت وظيفته القضاء على المضايقات التي يسببها المتسولون الصغار للناس، خصوصا الأجانب، إذ كان المتسولون الصغار يعيشون بحيلهم على ما يستطيعون أخذه أو سرقته من الأجانب، وعلى ما يجدونه من نفايات الطعام في علب القمامة.

كان المستر كي وون طيب القلب، ولم يطل أمره حتى تمكن من كسب ود أولئك الأطفال، وصار يقضي معهم جل وقته، حتى أنه أسس لهم ناديا في خرابة مدرسة مهجورة، وأخذ يغرس في نفوس الأطفال محبة العمل الشريف والعلم، وكثر طلبته وتمكن سنة 1956 من إقناع هيئة تعمير كوريا، التابعة للأمم المتحدة من دعمه، فصار للمدرسة عدد من المصانع، وتخصصت في تعليم الطلبة والطالبات مهنا مناهج دراسية تطول لمدة ثلاث سنوات، وهي ما كان لها الأثر الفعال في بيوت التجارة والصناعة في سيول، ولو أن صبري طال قليلا، لوجدت لكم ما يؤكد أن ما تقدمه سيول لأسواقنا من منتجات سامسونج مثلا صنع بأيدي طلبة مستركي وون، بقي أن نعرف أن الكوريين سموا واحدا من أفضل ميادينهم باسمه.

المواطن الدنماركي"هانز كريستيانسن" حقق ثروة هائلة، ولكنه خسرها بين يوم وليلة.

المواطن الدنماركي"هانز كريستيانسن" حقق ثروة هائلة، ولكنه خسرها بين يوم وليلة. لم يتبق له سوى مستودع كبير في حي فقير للغاية، يقضى أطفاله اليوم كله، يلعبون في الشارع بسبب ضيق مسكنهم، وما إن داوم السيد هانز بسبب فراغه، على الذهاب يوميا إلى مستودعه، الذي صار بابه مفتوحا، بعد أن كان مغلقا زمنا طويلا، حتى أغرت الأطفال ساحته، وشجعتهم على ممارسة ألعابهم في مراحه، خصوصا وأنه بركن منها كوم من الإطارات المستهلكة. في يوم تجرأوا، في غياب هانز، ولعبوا في الساحة، فيما تجمعت الفتيات حول منضدة مستطيلة يلعبن بدمى صنعنها بأيديهن. عاد هانز وأعجبه تجمعهم، ابتسم لهم بود دافق، بادله الأطفال الابتسام، غمرهم بنظرات دافئة، وبهجة تشع من وجه رجل سبعيني ذي شعر أبيض، وعينين ثاقبتين زرقاوين، وطلعة مريحة ببشرة متوردة. تشجع الأطفال وواصلوا لعبهم، فيما وجدت الفتيات بضعة أزواج من أحذية بالية أخذن في محاولة جادة لإصلاحها.

تفتقت الفكرة في رأس السيد هانز، ولم يطل الأمر حتى أسس سنة 1942 مشروع"نادي معونة الحذاء"، معتمدا على تجميع الأحذية البالية المطروحة بمراكز تجمع القمامة وإصلاحها، وعرضها على من يحتاجها بأسعار زهيدة، صارت هي الدخل، الذي ينفق منه على النادي، والذي أنشئت بفضله ملاعب رياضية لمختلف الرياضات، ومكتبة وصالة مطالعة وأخرى للموسيقي، وتطور مشروع الأحذية بفضل تنافس الفتيات، ليصير مصنعا حقيقيا لأحذية يعرض منها- الآن- في أشهر شوارع عواصم العالم المضيئة طوال الليل، وحتى سنة 1957 ظل هانز يبتديء يومه بارتداء مريلته الجلدية، يطوف متفقدا بين صبيانه، ليستقر مساهما وموجها لفتيات الأحذية.

صار بمقدوره أن ينتقل للعيش في الحي الراقي الذي كان يسكنه قبل إفلاسه، ولكنه استقر في الحي الفقير نفسه، مؤكدا أنه لم يشعر من قبل بحالة الثراء إلا بين أطفال الحي، هذا الحي الذي سمي باسمه.
في القاهرة شيد المفكر الكبير مصطفى محمود جامعا بمنتصف شارع جامعة الدول العربية، بميدان اسمته الدولة: ميدان العروبة، ثم ألحق به عيادة تطورت إلى مستوصف، خصص العديد من الأطباء، جزءا من وقتهم لتشخيص أمراض الفقراء مجانا، فيما يتولى المستوصف بقية علاجهم بأسعار رمزية، فماذا حدث بعد نجاح مشروع المستوصف؟ لم يعد الناس يطلقون على الميدان اسم ميدان العروبة، بل ميدان مصطفى محمود!

ومرة أخرى، أقول لكم: في ليبيا العديد من المشاريع المدنية الحقيقية، التي أسسها العديد من الليبيين المنتميين انتماء صادقا للوطن.إنها كثيرة: أريد فقط أن أذكِّر السادة الليبيين باثنين منها: مدرسة العمال الليلية، وجمعية الكفيف، ولقد انتقيتهما لأن جمعية الكفيف تأسست في بيت تأجر في شارع محمد موسى، ملاصقا للبيت الذي ولدت، وعشت صباي، فيه وبالتالي أعرف تفاصيل تأسيس المشروع، والرجال الذين ساهموا فيه، وبمدرسة العمال الليلية واصلت دراستي من السنة الخامسة الابتدائي، حتى وصلت الجامعة، ثم عدت مدرسا فيها.

كثيرون هم الذين ساهموا في تأسيس جمعية الكفيف، ولكن الفكرة كانت من السيد محمد على سعود، وكثيرون هم الذين ساهموا في تأسيس مدرسة العمال الليلية، ولكن الفكرة جاءت من السيد: محمد العالم حويو. ثمار هاتين المؤسستين انتشرت في ليبيا كلها، فما الذي يمنع من تسمية ميدانين باسميهما: أليس ذلك أفضل من تسمية ميدانين في بنغازي، أحدهما بالجرة والثاني بالجعب؟