Atwasat

ترحال: الشجاعة التكنولوجية

محمد الجويلي الثلاثاء 14 أبريل 2015, 08:38 صباحا
محمد الجويلي

عندما كنّا صغارا وحديثي العهد بالفضائل نتحسّس طريقنا نحو الحياة كان مقياس الشجاعة لدى أبناء جيلي في البوادي والأرياف أن يخرج الواحد منّا ولم يقفل بعد العشر سنوات وحده ليلا في الظلام الدامس والصمت المطلق الذي لا يعكّره إلّا نباح الكلاب، بعضها طليق وأقرب إلى التوحش ولا مفرّ من مصارعته، سلاحنا في ذلك الطوب والأحجار وأغصان الأشجار، وعندما كبرنا بعض الشيء مع منتصف العقد الثاني وفي عزّ مراهقتنا أصبح مقياسها هو الدخول إلى المقبرة ليلا وتسلّق أسوارها والبقاء لبرهة بين القبور في وحشة الظلمة على أهبة الاستعداد في كلّ لحظة أن ينهض واحد من الموتى في شكل"عبّيثة شرّيرة فاتحة فاها للانقضاض والافتراس، سلاحنا الوحيد في ذلك تحيّة"السلام عليكم" التي كنّا نتدرّب على التلفّظ بها جيّدا قبل الدخول إلى المقبرة والتي طالما استمعنا على لسان الكبار أنّها الكلمة السحريّة الوحيدة التي يمكن أن تجنّب المرء شرّ العبيثة وفتكها بحيث تردّ عندما تبادرها بهذه التحيّة"لولا سلامك ما تسمع كان تطقطيق عظامك"، هكذا كان يقفز الواحد منّا الممتحن في شجاعته إلى داخل المقبرة: العبيثة أمامه والأقران وراءه، خارجها ينتظرون نتيجة الاختبار والويل لمن يفزع أو يتقهقر أو يطلق ساقيه للريح هربا، فسيكون مدعاة للسخرية والتهكّم وسيملأ خبر جبنه الدنيا ويشغل مجالس الأطفال لمدّة من الزمان.

الحديث عن الشجاعة– عندنا العرب- إلى اليوم فيه الكثير من الطفوليّة والمراهقة السياسية بما في ذلك لدى البعض ممّن قدّموا أنفسهم لسنوات طويلة أنّهم أبطال الأمّة وفتيانها الشجعان. مازال البعض منّا يفهم الشجاعة فهما قروسطيّا ولا يعي التحوّلات التي طرأت على مفهوم الشجاعة من العصور القديمة مرورا بالقرون الوسطى إلى اليوم، لا سيما بفعل الحداثة التكنولوجيّة. منذ ثلاثين سنة تحدّى القذافي الرئيس رونالد ريغان"الكوبوي" الذي كان، قبل أن يصبح رئيس الولايات المتحدة ممثلا لراعي البقر في السينما الأمريكية، بعد قصف الطائرات الأمريكية لطرابلس وبنغازي، أن يواجهه رجلا لرجل ليرى العالم من هو أشجعهما. وبعده بسنوات قيل أنّ صدّام حسين الذي كان يحلو له كما يظهر في إحدى صوره النمطيّة وهو يشهر بندقيته ويطلق النار في السماء قد اقترح نفس الشيء على جورج بوش الصغير، وقد ضاق ذرعا بوعده ووعيده، منازلة بينهما على طريقة الفرسان في العصور الوسطى، سيفا بسيف ورمحا برمح، وبندقية ببندقية. والنتيجة كلّنا يعرفها: انتهاء الرجلين نهاية مأساويّة وقد يكون السبب الأساس لهذه النهاية هو فهمهما الفروسي للشجاعة وعدم تمثّلها في صيرورتها التاريخيّة وفي التحوّلات العميقة التي طرأت عليها بفعل التكنولوجيا الحديثة.

الشجاعة التي"تعقّب الذلّ" [أي التي يكون عاقبتها الذلّ] كما يقول المثل الشعبي هي أخطر أنواع الشجاعة على الفرد والجماعة، لا سيما إذا كان صاحبها على رأس هرم الدولة ومسؤولا بسلوكه وتصرّفاته على مصير الملايين من الناس. قد لا نشكّ في أنّ الرجلين وبدرجات مختلفة ومع الفوارق في الشخصيتين أنّهما شجاعان على الأقلّ بفهمنا للشجاعة ونحن صغار ليس بخروجهما في الظلمة فقط وزيارة المقابر ليلا ولا يمكن أن يتقهقرا في نزال وجه لوجه ومع أيّ شخص كان ولكن عندما يتعلّق الأمر بمصير شعبين، وفي مواجهة شجاعة من نوع آخر وبقيم أخرى فإنّ"الرأي قبل شجاعة الشجعان".

نعم التكنولوجيا قد تخلق"رجولة" لمن لا رجولة له وأنوثة لمن لا أنوثة لها- وفي النساء من هنّ أشجع من الكثير من الرجال- وشجاعة لمن جُبل على الجبن.

نعم التكنولوجيا قد تخلق"رجولة" لمن لا رجولة له وأنوثة لمن لا أنوثة لها- وفي النساء من هنّ أشجع من الكثير من الرجال- وشجاعة لمن جُبل على الجبن. وبلغة أخرى فإنّ قائد طائرة حربيّة حديثة قد لا يستطيع الخروج وحيدا مترجّلا في الليل الدامس، فما بالك بالدخول إلى المقابر ومواجهة العبابث والأشباح. وبعبارة أخرى"يمكن لدجاجة أن تفتك منه عشاءه" كما يقول أجدادنا كناية على من بلغ منه الجبن مبلغه، ولكنّه على بعد كيلومترات في السماء قادر أن يهزم مئات الرجال الأشاوس الشجعان وهم يفتلون شواربهم ويطلقون لحي رجولتهم الذين لو كانت الحرب والشجاعة بمقاييس العصور الوسطى لما تأخّروا لحظة في ساحة الوغى على تقديم صدورهم لوقع الحسام المهنّد، دفاعا عن أنفسهم وعن أوطانهم. ليس ثمّة في الحقيقة أكثر تعقيدا من تحديد مفهوم الشجاعة ذاته الذي قد يلتبس لأسباب يطول شرحها، نكتفي بالنظر في بعضها، بالتهوّر وعدم رجاحة العقل، هذا إذا لم يلتبس ببعض الأمراض العقليّة والنفسيّة التي تدفع المرء الذي يبدو في الظاهر وبمقاييس العادة والتقليد شجاعا فيقدم على ما يصعب فعله على الإنسان السويّ، بما في ذلك على الموت في الحروب والمواجهات المسلّحة، بل يذهب إلى أبعد من ذلك وباسم الشجاعة إلى استباحة دماء الناس وقتلهم دون شفقة ورحمة وإحساس بالذنب.

وفعلا فإنّ الشجاعة الحقيقية السويّة المتوازنة والفاضلة في ذاتها هي النابعة من العقل كما بيّن ذلك أرسطو في كتابه"الأخلاق" وكما برع أبو عثمان الجاحظ منذ أكثر من ألف سنة في الدعوة إليها من خلال نظريته في الفعل الإنساني ودواعيه التي بلورها لحلّ بعض المعضلات المطروحة على الفكر العربي الإسلامي في عصره ولإعادة قراءة بعض الأحداث المؤسّسة للتاريخ الإسلامي بعيدا عن سلطة النقل والعادة. وخلاصة هذه النظرية تتمثّل في رأيه أن الفعل الشجاع هو ما تتعادل فيه دواعي الشجاعة مع دواعي الجبن مسبقا حتّى إذا ما تحقّق بعد ذلك صار فعلا شجاعا، بمعنى أنّه لا بدّ من أن تكون"المشجِّعات على قدر المُجبّنات" في نفس الفاعل، فإذا أقدم على فعل شجاع كان ذلك عن وعي واختيار، ما عدا ذلك يصبح فعله تهوّرا، على شرط أن تكون هذه المُشجِّعات فاضلة لأنّه سيتبيّن أنّها ليست دائما كذلك كما يتوهّم عامة الناس.

يقول الجاحظ في رسالة العثمانيّة "واعلم أنّ المشي إلى القِرْن[أي العدوّ المبارز] بالسيف ليس هو على ما يتوهّمه الغِمر[العوام] من الشدّة والفضل... فالنفس المستطيعة المختارة التي قتالها طاعة وفرارها معصية قد عُدلت كالميزان في استقامة لسانه وكِفّتيه، فإذا لم يكن بحِذاء سيفه إلى السيف ومكروه ما يأتي به، ما يعادله ويوازنه لم يمكن النفس أن تختار الإقدام على الكفّ، ولكن معه في وقت مشيه إلى القِرْن أمور تنفّحه مشجّعة، وإنْ لم يبصرها الناس وقضوْا على ظاهر ما أبصروا من إقدام.

والسبب المشجّع ربّما كان الغضب، وربّما كان الشراب، وربّما الغرارة والحداثة[من حدث أي الصبا] وربّما كان الغيرة وحبّ الأحدوثة...." وحتّى نعطي مثالا على ذلك فالمقدم على الموت في الحرب حتّى يمكننا أن نصفه بالشجاع فلا بدّ أن تستوي فيه المشجّعات: مثل الدفاع عن الشرف أو الوطن بالمجبِّنات مثل توقّع أن يُصاب وتٌبتر أقدامه أو استحضار زوجته ثكلى تبكي في حرقة وأطفاله يتامى مشرّدين وجوعى بعده، أمّا إذا كانت المشجّعات كما ذهب إلى ذلك أبو عثمان من قبيل الغضب الذي يحذّر الفلاسفة من عواقبه الوخيمة أو ناتجة عن صغر السنّ"الغرارة والحداثة" والتباهي أمام الناس وبحثا عن الشهرة بأيّ ثمن"حبّ الأحدوثة" أو الشراب المسكر المفقد للوعي وهي عادة حتّى لدى بعض الجيوش الحديثة، وأفضل مثال على ذلك من سمّوا في فرنسا إبّان الحرب العالميّة الأولى بالشعرانيين(Les Poilus) "لكثرة الشعر في أبدانهم"، كناية عن رجولتهم وشجاعتهم الذين كانوا يُساقون إلى خطوط النار الأولى وهم مخمورون وكذلك لدى الميلشيات والجماعات المسلّحة في عصرنا التي كثيرا ما يلقي قوادها بشباب في أتون معارك ضارية تحت تأثير المخدّرات و"حبوب الهلوسة" أيضا، فيدخلونها وهم لا يبالون بشيء يهتكون الأعراض ويقتلون دون واعز أو ضمير ويدمّرون كلّ شيء أمامهم فهذه من المحفّزات على القتال التي تسلب أصحابها صفة الشجاعة وتكسبهم، على العكس من ذلك، صفة الإجرام. ما يُقال عن الشجاعة، يُقال عن القيم الأخرى مثل الكرم الذي إذا لم تتساوَ فيه"المُكرِّمات" بـ"المُبخِّلات" صار تبذيرا وإسرافا ولم يعد كرما. وهذا موضوع آخر قد نعود إليه في مقال لاحق.