Atwasat

الثقافة مظهرًا والسياسة جوهرًا

عمر أبو القاسم الككلي السبت 11 أبريل 2015, 10:44 صباحا
عمر أبو القاسم الككلي

الثلاثاء الماضي، 7. 4. 2015، عقدت بدار الفقيه حسن بالمدينة القديمة في طرابلس، ندوة مكرسة للثنائي البارز في الأغنية الليبية الراحلين سلام قدري (ملحنًا ومغنيًا) وأحمد الحريري (شاعرًا غنائيًا) تحت شعار: «عرجون فل عشية»: سلام قدري/ أحمد الحريري. «عرجون فل عشية» مطلع أغنية من أغاني سلام قدري ألف كلماتها أحمد الحريري، كما أن بيع أزهار الفُل (الفَل في اللهجة الطرابلسية) في العشايا ظاهرة طرابلسية.

لست هنا بصدد القيام بتغطية لوقائع هذه الندوة وعرض وتقييم ما قدم فيها من أوراق وما تلا ذلك من تعقيبات. وإنما سأتحدث عن المشاعر التي كان المرء يشعر بانبثاقها في جو الندوة والمعنى العميق الذي تبطنها واكتنفها من حيث كونها واقعة ذات بعد ثقافي عام وبعد سياسي أيضًا.

عقب استيلاء العسكر على السلطة في ليبيا، نهاية 1969، واستفراد معمر القذافي بإدارة دفتها مع نهاية السبعينيات، بدأت حرب ممنهجة ضد فن المدينة وبذلت جهود كبيرة لإلغائه

فقد شكل هذا الثنائي ظاهرة متميزة في الأغنية الليبية، وكان الحريري مجددًا في شعرية الأغنية الليبية المكتوبة بالعامية الطرابلسية تحديدًا، ونقلَ هذه الأغنية إلى مناخات التجديد الشعري الغنائي، عالي الشعرية، الذي كان يتولد في المنطقة العربية بداية من حقبة الستينيات.

لكن عقب استيلاء العسكر على السلطة في ليبيا، نهاية 1969، واستفراد معمر القذافي بإدارة دفتها مع نهاية السبعينيات، بدأت حرب ممنهجة ضد فن المدينة وبذلت جهود كبيرة لإلغائه، أو على الأقل طمسه وتهميشه، وتسويد الفنون البدوية.

كانت طرابلس، بحكم المسار التاريخي للإقليم الليبي، أكثر المراكز الحضارية تقدمًا في هذا الإقليم وأغناها بالفنون المدينية، العريق منها، مثل المالوف والموشحات، والحديث، مثل الأغاني العادية، سواء ما كان منها نابعا من التراث الفني للمدينة ذاتها أو مستمدا من تراثات المناطق الليبية الأخرى التي دخل القادمون منها في نسيج المجتمع الطرابلسي مغذين تراث المدينة بعناصر واضحة من تراثهم، أو ما تم استلهامه من إنجازات الموسيقى العربية الشرقية، بالذات في مصر.

لذا تعرضت هذه المدينة إلى محاولة إعاقة وتشويه أبعادها المدينية من خلال السعي إلى"بدونتها" وإماتة فنونها، وفي مقدمة ذلك الفن الغنائي والموسيقي.

طبعًا، لسنا ضد الاهتمام بالفنون البدوية والريفية وحفظها وإحيائها ونشرها، ولكننا نعارض جعلها الفنون الوحيدة الجديرة بالحياة، على حساب فنون المدينة. فلا تفاضل عندنا بين الفنون كتراث لمجموعات بشرية وتكوينات اجتماعية.

لقد كان معمر القذافي، رغم ذكائه الحاد، يتصرف في كثير من الأحيان تصرفات تنم على غباء شديد، أو حمق. ومرد هذا، في تقديري، إلى جانبين. الجانب الأول أن الشخص الذي يتملك القوة يصبح أقل اعتمادا على إعمال عقله.

فإعمال العقل يتم اللجوء إليه عندما تفشل القوة أو لا تتوفر. لكأن العقل، عموما، هو سلاح الضعفاء! والجانب الثاني يرتبط بطبيعة الشخصية المرضية لمعمر القذافي من حيث كونها شخصية استبدادية ضاجة بجنون العظمة.

شخصية المستبد التي تسعى إلى صبغ الحياة العامة للمجتمع، والخاصة للأفراد، بطابعها هي ذاتها وإملاء رغباتها، دون أن تنتبه إلى أنها كلما أمعنت في هذه الممارسة كلما أدى ذلك إلى اتساع رقعة المعارضة وحدة مشاعر العداء المنعكس وما ينجر عنه من احتقان اجتماعي وتضييق الحاضنة الشعبية الداعمة لهذا النظام، شيئًا فشيئًا.

لقد كان هذا المعنى العميق السيال حاضرا بكثافة في تلك الأمسية برهافة ورقي ودماثة، دون سباب أو قدح أو تهجم على فنون البدو أو الريف أو عزو ما أصاب المدينة إليهم. كانت العاطفة صافية خالية من أية مشاعر سلبية ومحكومة بالعقلانية والموضوعية، وبذا يكون المتحدثون في هذه الندوة قد شددوا، بشكل ضمني، على البعد الوطني لمواقفهم وتفكيرهم والبعد «العاصمي» وبالتالي الوطني، لهذه المدينة.