Atwasat

ترحال: الصداقة الإلكترونية!

محمد الجويلي الإثنين 06 أبريل 2015, 10:45 صباحا
محمد الجويلي

اعترضني منذ أسبوع أستاذ جامعي شابّ بالصدفة، وهي صدفة جميلة على أيّ حال، واستوقفني مرحّبا ومهلّلا قبل أن يبادرني معرّفا بنفسه وبي في ذات الوقت"أنّه صديقي". تفرّست في الوجه مليّا وشعرت بارتباك لأنّني لم أتعرّف على الشخص الذي أمامي وقلت لربّما نسيته وآفة الإنسان النسيان وأحسست بالذنب والحرج لنسياني صديقا مهذّبا ومحترما مثله وليس ثمّة ما يحرج المرء ويخجله في الصداقة أكثر من أن ينسى مثلا اسم صديق له في الطفولة يلتقي به بعد سنوات أو عقود من الغياب وانقطاع الصلة به، فما بالك أن ينساه كلّه مظهرا وجوهرا واسما حتّى وإنْ كان النسيان في هذه الحالة ليس دليلا على نكران للصداقة أو عدم الوفاء لها، وإنّه كثيرا ما يحدث في الحياة اليوميّة ويعود إلى أسباب أخرى لا صلة لها بالأخلاق ولا علاقة لها بثنائيتي الحبّ والكره والوفاء للعشرة أو التنكّر لها، بعضها بيولوجي وبعضها الآخر مرتبط بسياق النسيان النفسي والذهني والاجتماعي والجغرافي في تلك اللحظة التي لو كانت لحظة مختلفة، أي في ساعة أخرى تتوفّر فيها شروط ذاتية وموضوعيّة مختلفة، لما حدث هذا النسيان أصلا، وهي مسألة خاض فيها بدقّة مؤسّس التحليل النفسي سيغموند فرويد(Sigmund Freud) في أحد كتبه التي لم تحظ كغيرها بالانتشار والنقد والقراءة"علم النفس المرضي للحياة اليومية"(Psychopathology of Everyday Life). مرّ إحساسي بالذنب الذي اعتراه بعض الخجل في رمشة عين والشاب الذي قدّم لي نفسه بأنّه صديقي واقف أمامي ينظر إليّ، ولعلّه رأى هذا الإحساس في وجهي، فبادرني مستدركا– وهذا من حسن أخلاقه- أنّه"صديقي في الفايسبوك".

آه طيّب. قلت له مبتسما. أتشرّف بك. ثم تجاذبنا أطراف الحديث على عجل وانصرفت مبتهجا لأنّي خطوت الخطوة الأولى والأساسيّة في غنم معرفة شخص، بدا لي أنّه أهل للصداقة معي ومع غيري، الصداقة كما أتمثّلها في ذهني، أو بالأحرى كما تمثلتها البشريّة على مرّ تاريخها من خلال فلاسفتها وأدبائها منذ أرسطو وعبد اللّه ابن المقفع وأبو حيان التوحيدي وصولا إلى"الشيخ زبير" وبروست(Proust) وغيرهم من كتّاب الإنسانية الكبار والتي من شروطها التي لا غنى عنها، أي حَجَر الأساس فيها أن يكون المرء قد التقى بصديقه مباشرة على الأقلّ مرّة واحدة في العمر ومرّ حبل الودّ بينهما ونتج انسجام ما وما يمكن أن نترجمه بالتواطؤ بينهما(Complicity).

وما أكثر أصدقاءنا في الفايسبوك الذين نختلف معهم في شؤون الدنيا والدين، في السياسة والأفكار، بل في تعريف الصداقة ذاتها.

ولكن الأسئلة سرعان ما أطبقت عليّ وسرعان ما اعتراني الإحساس بالذنب ذاته والخجل من جديد عندما تذكٍرت أصدقائي في الفايسبوك وهم بالمئات الذين لم تكتب لي ظروف الحياة أن أتشرف بمعرفتهم عن قرب، ولكنّ البعض منهم لا يفوّت الفرصة للبرهنة على مشاعر صداقته لي سواء بتهنئتي في الأعياد بما في ذلك بمناسبة عيد ميلادي الذي لم أحتفل به قطّ في طفولتي وليس من عاداتي ولكن يجبرني أصدقائي في الفايسبوك على الاحتفال به معهم بإرسال عبارات لطيفة، بل الذهاب أبعد من ذلك بالإغداق عليّ بوردة جميلة، بل باقات ورد كاملة على اختلاف ألوانها وأحجامها أو بنقش إعجابه في الفايسبوك على بعض ما أكتب وأنشر أو بالتعليق عليه بالتشجيع والتنويه وأحيانا بالنقد والتجريح اللّطيف وهذا كذلك من شروط الصداقة الحقيقية"أن يسمعك صديقك في أدب ما لايرضيك، فلا ينافقك ولا يجاملك فيما يعتقد أنّك أخطأت فيه" وما أكثر أصدقاءنا في الفايسبوك الذين نختلف معهم في شؤون الدنيا والدين، في السياسة والأفكار، بل في تعريف الصداقة ذاتها.

أ لا يُعدّ تمسّكي بالتعريف العريق العتيق للصداقة تنكّرا لهذه الصداقة الجديدة"الإلكترونيّة" والافتراضيّة التي انخرطت فيها ومن واجبي الأخلاقي، واجب الصداقة مادمت أجني البعض من ثمارها كما قلت وهي من نفس ثمار الصداقة الكلاسيكيّة، أن أكون وفيّا لها وأن ألتزم بالدفاع والذود عنها؟

لا شكّ أنّ الصداقة الإلكترونية هي من إفرازات تخمة الحداثة(supermodernity) التي تعتبر الثورة الافتراضية والإلكترونية التي غيّرت بطريقة جذرية وسائل الاتصال البشري إحدى مظاهرها الأكثر أهمية ولفتا للانتباه ولا غرابة حينئذ أن يلتفت الانتروبولوجيون وعلماء التحليل النفسي واللسانيون إلى مساهمة الفايسبوك في التطوّر النفسي والذهني للإنسان وهو معطى انتروبولوجي جديد بما يوفره من إمكانيات متعدّدة للتواصل لا عهد له بها ما جعل سيلفيان ميسونييه(Sylvain Missonier) يبدع على طريقة فرويد مصطلح"الدراسة التحليلية النفسية للعالم الافتراضي اليومي"(Psychopathology of virtual everyday life). إنّ الإنسانية إذن تشهد اليوم نوعا آخر من الصداقة لا عهد لها به، بل أصبحنا نستمع من حين إلى أخبار زيجات كانت ثمرة حبّ إلكتروني"ليس الحبّ من أوّل نظرة" الذي تحدّث عنه ابن حزم في طوق الحمامة وإنّما من"أوّل اتّصال فايسبوكي".

هل يمكن أن تحقّق الصداقة الإلكترونية الوظائف التي تحقّقها الصداقة الكلاسيكيّة؟

هل يمكن أن تحقّق الصداقة الإلكترونية الوظائف التي تحقّقها الصداقة الكلاسيكيّة؟ وهل يمكن أن تصبو إلى الفضيلة التي جعلها أرسطو غاية الصداقة( Philia)التي دونها لا تتحقق السعادة في أنواعها الثلاثة: أوّلا الصداقة المبنية على المنفعة والتي تتحدّد قيمتها بمقدار ما يجنيه المرء مقابل ما يعطيه لصديقه والتي أحسن ما يعبّر عنها المثل الفرنسي القائل"بقدر ما يكون الحساب جيّدا، تكون الصداقة جيّدة( Les bons comptes font les bons amis)، علما وأنّ هذه الصداقة المبنية على الحساب الدقيق تنبع من العقل باعتبار أنّ اليونان لهم كلمة واحدة هي"راصيو"(ratio) للدلالة في ذات الوقت على الحساب والعقل لأنّهم يعتقدون أنّ التفكير أو السلوك العقلاني هو بالضرورة حسابيّ، وثانيا الصداقة من أجل المتعة التي تتحدّد بمقدار الأنس والبهجة التي يوفّرها الصديق لصديقه، وثالثا صداقة الناس الطيبين كما ينعتهم أرسطو الذين يتصادقون دون منفعة مادية أو معنويّة، أي"للّه في سبيل اللّه" وهي الصداقة الفاضلة في أرقى درجاتها؟

الإجابة لن تكون سهلة على هذا السؤال، ولو ثمّة ما يوحي بأنّها يمكن أن تحقّق على الأقلّ الوظيفة الثانية المتعلّقة بالتحابب والتآنس وتمضية أوقات ممتعة على شاشة الكومبيوتر، بشرط أن تلتزمً بالطبع بمواعظ حكماء الإنسانية التي بقدر ما تنطبق على الصداقة الكلاسيكية، تنطبق على الصداقة الفايسبوكيّة والتي تدعوك أن تكون حذرا في اختيار أصدقائك في الفايسبوك مستحضرا حكمة ابن المقفع"واعلم أنّ انقباضك عن الناس يكسبك العداوة، وأنّ انبساطك إليهم يكسبك صديق السوء وسوء الأصدقاء أضرّ من بغض الأعداء. فإنّك إنْ واصلت صديق السوء أعيتك جرائره، ولئن قاطعته شانك اسم القطيعة" وتأخذ بعين الاعتبار أنّ الصداقة فضيلة، ولا فضيلة في الجهل والكذب"فإنّ الجاهل- كما يقول ابن المقفع- أهل أن يهرب منه أبواه وإنّ الكذّاب لا يكون أخا صادقا...وإنّما سُمّي الصديق من الصدق وقد يتهم صدق القلب وإنْ صدق اللّسان. فكيف إذا ظهر الكذب على اللسان؟ وإنّ الشرّير يكسبك العدوّ، ولا حاجة لك في صداقة تجلب العداوة".

الكذب الإلكتروني، مثله مثل الصداقة الفايسبوكيّة، موضوع إشكالي في حاجة إلى مزيد من التأمّل والتفكير ويقع في مفترق طرق بين الفلسفة والانتروبولوجيا والتحليل النفسي، غير أنّ ما تجدر الإشارة إليه، هو أنّ الإنسانيّة تعرف شكلا جديدا للصداقة، صداقة دون معرفة مباشرة، دون ذكريات مشتركة بحلوها ومرّها، ماعدا"ذكريات إلكترونية" يتقاطع فيها الأصدقاء على شاشات الكمبيوتر. لقد ولّى الزمن الذي تصلك فيه عن طريق ساعي البريد– فما بالك بالحمام- رسالة من صديق عزيز فرّقت بينكما الأيّام ولكن القلب مازال يجمعكما بعد غيبة طويلة، فترتعش يداك لتفتحها وتتفرّس فاغرا فمك وشاخصا عينيك فيما حبّره لك وخطّه بأنامله من كلمات، الخطّ كبصمات اليد جزء من شخصية صاحبه وعبره تلتقي بصديقك لقاء حسّيا ولو بالغياب قبل أن تطوي الرسالة وتضعها في ظرفها وقد تذهب إذا كنت من غلاة الرومانسيين في الصداقة أن تتوسّدها أو تضعها لأيّام حذو وسادتك أو على الأقلّ تحافظ عليها كشيء ثمين لشهور أو سنوات في خزانتك. ما يصلك الآن بصديقك ومنه: إرسالية قصيرة عبر الهاتف المتنقّل أو في شكل"ايمايل" أو رسالة على الفايسبوك على مستوى الشكل– ومن حسن حظّ المضمون- تكون خطّا معولما واحدا من"صديق ذي بعد واحد" يستحيل عليك أن تقرأ ملامحه من خلاله أو تنصت لدقات قلبه بين الحروف والسطور.