Atwasat

إعلام الكراهية

محمد اقميع السبت 04 أبريل 2015, 10:13 صباحا
محمد اقميع

الإعدام شنقاً، كان مصير الصحفي الألماني يوليوس شترايخر(*)، بسبب إدانته بارتكاب جرائم حرب، وجرائم ضد الإنسانية، وضد السلام، والتحريض على العنف والقتل. ضمن محكمة"نورمبرغ" التي تُعَد من أشهر محاكمات مجرمي الحرب التي شهدها التاريخ المعاصر. وعُقدت أولى جلساتها في 20 نوفمبر 1945. ومثُل أمام هذه المحكمة مجرمو الحرب الذين ارتكبوا فظائع بحق الإنسانية في أوروبا، ومن بين الفظائع المرتكبة هي القتل الجماعي وإنشاء معسكرات الاعتقال للمدنيين والزج بهم في تلك المعتقـلات التي اتسمت بأسوأ الظروف المعيشية. وتم تنفيذ أحـكام بالإعدام لعـدد من المسـؤولين الحكوميين والقادة العسكريين المدانين، وكان يوليوس شترايخر الصحفي الوحيد بينهم. ورغم عدم تورطه المادي المباشر إلا أن تهمة التحريض على القتل وإثارة الرأي العام لارتكاب جرائم وحشية وبشعة كانت سبباً كافياً بالنسبة للمحكمة لإصدار وتنفيذ حكم الإعدام في حقه.

وخلال محاكمة"نورمبرغ" تم التأكيد على الدور الحاسم للدعاية في الحروب الحديثة والتي تم فيها تحديد ثلاث خطوط رئيسية للحرب الشاملة: وهي الحرب باستخدام الأسلحة البرية والجوية والبحرية، والحرب الاقتصادية، وثالثاً الحرب الدعائية التي تعد جزءا أساسيا في كل حرب. ليصبح المنخرطون في العمل الصحفي جزءا فاعلاً ومهماً في تلك الحروب. كما أنهم في المقابل لن يكونوا في مأمن من الملاحقة القضائية والمحاكمة والوقوف في قفص الاتهام مع مجرمي الحرب الآخرين. وهو ما دفع الجمعية العامة للأمم المتحدة إلى تبني قرار يدين كل أشكال الدعاية التي تُصّمم أو من المحتمل أن تثير أو تشجع أيَّ تهديدٍ أو خرقٍ للسلام أو تدفع لارتكاب أي عمل من أعمال العدوان.

لم تكن محاكمة الصحفي الألماني في نورمبرغ، سابقة تاريخية يتيمة، وإن لم تخلُ من التوظيف السياسي أو ما يوصف بـ(عدالة المنتصر). ففي 8 نوفمبر 1994 أنشأ مجلس الأمن الدولي المحكمة الجنائية لرواندا، وكان لهذه المحكمة التابعة للأمم المتحدة اختصاص النظر في جميع انتهاكات حقوق الإنسان الدولية المرتكبة في رواندا خلال فترة الحرب الأهلية. وقد مَثَل أما م المحكمة ثلاثة من أصحاب وسائل الإعلام الذين تم اتهامهم باستخدام وسائل الإعلام الخاصة بهم للتحريض على الكراهية العرقية والتحريض على القتل وانتهاك حقوق الإنسان. وقد أصدرت المحكمة الدولية سبعة وعشرين حكماً على ثلاثة وثلاثين متهماً. ومن المعروف أن الإعلام الرواندي كان له دور كبير في أعمال القتل الوحشية التي دارت خلال الحرب الأهلية في البلاد.

وأيضاً، واجه عدد من الصحفيين وبعض المؤسسات الإعلامية الصربية تٌهماً بالتورط في قضايا جرائم حرب خلال حروب البلقان في الفترة 1991-1995. بعد أن قدمت رابطة الصحافيين الصربيين المستقلة للقضاء أدلة ضد أربع مجموعات إعلامية صربية بارزة ورؤساء تحريرها، بسبب تحريضهم على الكراهية العرقية، وترويجهم للأخبار المُضلِلة وإثارة الرأي العام التي قادت إلى ارتكاب أعمال شنيعة وجرائم حرب في كرواتيا والبوسنة".

لم تكن محاكمة الصحفي الألماني في نورمبرغ، سابقة تاريخية يتيمة، وإن لم تخلُ من التوظيف السياسي أو ما يوصف بـ(عدالة المنتصر)

ربما،هو حظ الإعلاميين السيء أن من يرتكب منهم جرماً فإنه بالضرورة تجده يتأبط أدلة ووثائق إدانته سواء مطبوعة أو موثقة بالصوت والصورة، وفي أغلب الأحيان، لن يجد من يجعل له مخرجاً لينفد بجلده من العقاب. ولو بعد سنوات كما شهدنا من الأمثلة والنماذج سالفة الذكر.

في بلداننا العربية ومنذ اندلاع الحروب في كثير منها ضمن ما يعرف بـ"الربيع العربي"، تصدرت كثير من القنوات العربية المشهد الإعلامي وعلى رأسها شبكة الجزيرة والعربية وبعض القنوات الدولية الأخرى وعدد كبير من القنوات المحلية التي لا حصر لها والتي عملت على إثارة الرأي العام والتحريض الطائفي والمذهبي والقبلي والأيديولوجي...، وساهمت بفاعلية في إشعال الحروب وارتكاب المذابح الجماعية وتهجير الملايين من ديارهم، والاعتقالات العشوائية الواسعة لعشرات الآلاف من المدنيين وتغييبهم في السجون السرية. ولقد ارتكب الإعلاميون من خلال تقاريرهم المُضلِلة للرأي العام جرائم حرب لا تقل بشاعة عما اقترفه أمراء الحرب من كل الأطراف، وحتماً لن يفلت مرتكبو هذه الجرائم من الملاحقة القضائية ولو بعد حين.

يدرك الجميع أن بوسع وسائل الإعلام، وخصوصاً، الفضائيات أن تقلب معادلة الحرب، وتحقق السلام فعلاً، وأنها قادرة على أن تُشيع خطاب المحبة والتسامح بدلاً من خطاب الكراهية والقتل والانتقام. ولو لم يكن أكثرهم يدرك خطورة الدور الذي تلعبه وسائل الإعلام لما اقتحمت أغلب رؤوس الأموال- الصالح منهم والفاسد- هذا المجال. كما أنه لا يخفى على الكثيرين أن الفضائيات هي محرقة لرأس المال وتتطلب ضخ الملايين بلا مقابل يذكر، إلا إذا تم توظيف هذه الفضائيات الخاصة من أجل الابتزاز والتشهير والضغط على صناع القرار من أجل منصب أو مال أو تمرير صفقات محلية ودولية أو فقط منبر للدعاية السياسية لمالكها. وفي الأغلب، ليس هناك من يرغب بإحسان وعمل خيري ويلجأ لإنفاق الملايين على محطة فضائية. وحتماً، وفي ظل هذه الفوضى لا أحد يفكر في أنه قد يواجه العدالة يوما ما.

وكما لم يخطر ببال الصحفي الألماني"يوليوس شترايخر" وبعد سنوات طوال أن تكون نهايته الإعدام شنقاً بسبب تحريضه على القتل والانتقام، وبث روح الكراهية والعدوان، فإن كثيرا من الصحفيين المتحمسين اليوم على الشاشات ويحرضون على القتل، و(الدعس) والسحق، حسب تعبيراتهم الرائجة هذه الأيام، يظنون أنهم فعلاً في مأمن من الملاحقة القضائية والاقتصاص منهم.

(*) Julius Streicher يوليوس شترايخر صحفي ومؤسس الصحيفة الألمانية الأسبوعية(Der Stürmer) The attacker وتم تنفيذ حكم الإعدام في 16 أكتوبر 1946.