Atwasat

أُذنُ جحا!

عمر أبو القاسم الككلي السبت 04 أبريل 2015, 10:11 صباحا
عمر أبو القاسم الككلي

مقارنة بـ"التوراة"، يعتبر"التلمود" متصلبا عديم المرونة في تطبيق أحكامه، بما فيها تلك التي أسقطها التطور التاريخي. ذلك أن النص الحرفي في"التلمود" ملزم دون أي مجال للتأويل. لكن تضارب المعنى الحرفي، في بعض الحالات، مع مصالح الأغنياء والحاخامين أفضى إلى ابتداع نظام من"الحيل" يتمسك بمنطوق النص التشريعي ويلتف على مقاصده. وقد عرف هذا النظام بـ"الإعفاءات الشرعية".

هذه"الإعفاءات الشرعية" تستخدم أساسا في التحايل على الأعمال المحظور على اليهود القيام بها يوم السبت. لكنها تستخدم في"تحليل" أو"غسيل شرعي" لنشاط اقتصادي هام، هو الإقراض الذي تترتب عليه فوائد[ربا]. فالتلمود يحظر"الترابي" بين اليهود، وكل اليهود المتورطين في إبرام صفقة من هذا النوع، بمن في ذلك الشهود وكاتب العقد، يعاملون معاملة الكفرة ولا تقبل شهادتهم في المحاكم. في حين أنه يحث على تقاضي أعلى فائدة عن القروض الممنوحة لغير اليهود. ومع نشوء ضرورة لـ"التقارض" بين اليهود ابتكرت الحيلة التالية:

استحدثت فتوى"الإعفاء التجاري" التي تمكن من تقاضي الربا على القروض المالية بين اليهود على نحو لا يخالف منطوق الحكم الشرعي، كونها لا تعد قروضا من الناحية الشكلية وإنما هي عمليات"استثمار"! فالمُقرِض يستثمر قرضه في تجارة المقترض بشرطين:
1) أن يدفع المقترض للمقرض في أجل محدد مبلغا ماليا(يكون في حقيقته مقدار الفائدة المتفق عليها) باعتباره حصة المقرض في الأرباح.
2) اعتبار أن المقترض قد حقق ربحا يمكنه من إيفاء المقرض حصته.

يتم"غسيل" أو"إعادة طلاء" عملية الإقراض الربوي وتحويلها إلى عملية استثمار على النحو التالي:
يعلق نص الفتوى المكتوب بالآرامية، غير المقروءة من قبل الغالبية، على جدار الغرفة التي تبرم فيها الصفقة، أو يتم حفظها في صندوق، وبذلك يصبح قبول الربا على القروض بين اليهود مشروعا لأنه تحول إلى عملية"مرابحة"! الجدير بالذكر أن النص الآرامي لفتوى إباحة الإقراض الاستثماري بين اليهود يعرض في المصارف الإسرائلية كافة.

في الفقه الإسلامي يوجد ما يسمى"الحيل الفقهية". ثمة خلاف شديد بشأنها، ولكنها موجودة في المذاهب الإسلامية جميعها ويجري تفعيلها. وقد ظهر النقاش حولها مع بداية القرن الثاني للهجرة، وهي الفترة التي بدأ فيها تدوين السنة. يقول ابن تيمية بأن العمل بالحيل"حدث في الإسلام في أواخر عصر صغار التابعين بعد المائة الأولى بسنين كثيرة" معللا ظهورها بأنه"إما ذنوب وقعوا فيها فجوزوا عليها بتضييق أمورهم، فلا يستطيع دفع هذا الضيق إلا بالحيل، كما جرى لأصحاب السبت من اليهود، وإما مبالغة في التشدد؛ حيث ضيقوا على أنفسهم أمورًا وسعها الشرع فاضطرهم هذا إلى الاستحلال بالحيل." لكنها كانت تستخدم أيضا في المعاملات المالية المختلفة، ويدخل في بعض هذه المعاملات عنصر ربوي يتم إظهاره كمعاملة تجارية ربحية، أو عملية مرابحة.

استحدثت فتوى"الإعفاء التجاري" التي تمكن من تقاضي الربا على القروض المالية بين اليهود على نحو لا يخالف منطوق الحكم الشرعي

سنكتفي بمثال واحد هو ما يسمى بـ"بيع العِينة". ومضمونه أن أشتري سيارة مثلا من شخص بعشرة آلاف دينار أدفعها له فورا، وفق عقد مبايعة وشهود، ثم أبيعها له مجددا بأحد عشر ألف، أو أكثر، مؤجلة تدفع بعد سنة، وأيضا وفق عقد بيع وشهود، فيكون شراء السيارة في هذه الحالة وإعادة بيعها لصاحبها الأصلي مجرد عملية تحايل أتقاضى به ربا عن القرض. ويقرر النووي بهذا الخصوص:" العينة ليست بحرام ، وهي الحيلة التي يعمل بعض الناس بها توصلاً إلى مقصود الربا ".
وما يحدث الآن تحت مسمى"المرابحة الإسلامية" هو، جوهريا، حيل فقهية تُظهر عمليات الإقراض المصرفية على أنها معاملات تجارية. فما يتم الآن في عمليات بيع السيارات، مثلا، بضمانة المصرف يجري كالتالي:
يتقدم صاحب الحاجة إلى المصرف الذي فيه حسابه بطلب شراء سيارة، وفي حالة الموافقة يذهب إلى إحدى شركات بيع السيارات المحددة من قبل مصرف ليبيا المركزي(على أي أساس يتم هذا التحديد؟!) فيختار سيارة محددة ويبرم عقد الشراء مع المصرف، وليس مع الشركة المالكة للسيارة. يكون ثمن السيارة، الذي سيدفع من قبل الشاري للمصرف على أقساط، متكونا من ثمن السيارة كما تحدده الشركة المالكة مضافا إليه نسبة 15% من هذا الثمن. أي أن المصرف يكون قد اشترى السيارة من الشركة بدلا من أن يقرض ثمنها للزبون، وأعاد بيعها له على أقساط بـ"فائدة" محسوبة من ثمنها الأصلي(القرض، في الحقيقة). هذا الالتواء والالتفاف هو مجرد"حيلة فقهية" لتجنب تقاضي الفائدة على القروض المصرفية باعتبارها"ربا" بالمعنى الشرعي، وليس بالمعنى اللغوي. يقول د. رفيق المصري:"تم الترتيب بين الأطراف الثلاثة : البائع والمشتري(العميل) والمصرف، على أن يسدد المصرف الثمن المعجل للبائع، ويسجل الثمن المؤجل في ذمة المشتري. فالبائع لا يريد أن يمول المشتري، بل يريد أن يقوم بذلك طرف ثالث هو المصرف. وبهذا انفصل التمويل عن البيع، بمعنى أن الجهة الممولة هي غير الجهة البائعة.

لو نظرنا إلى المصرف لوجدنا أن دوره دور الممول، وليس دور التاجر البائع، فهو يريد أن يكسب من التمويل فرق الثمنين، دون أن يتحمل أي مخاطرة. ومن ثم يَرِدُ على هذه المعاملة :
- ربح ما لم يضمن، فالمصرف هنا يكسب بدون مخاطرة.
- بيع ما ليس عنده. فالبائع الحقيقي ليس المصرف، بل هو تاجر السيارات. وما قد يتظاهر به المصرف من تملك شكلي أو لحظي(للحظة واحدة) أو غير ذلك من الحركات والأوراق ليس إلا نوعًا من التظاهر بالبيع للتستر على حقيقة التمويل المستقل عن البيع.
- يقدم المصرف هنا للعميل مبلغًا هو الثمن المعجل ويستردّ منه بالشرط مبلغًا أكبر هو الثمن المؤجل، وتكون فائدة التمويل هو الفرق بين الثمنين. وهذا هو ربا النسيئة الذي حرمه علماء الهيئات الشرعية أنفسهم على المصارف التقليدية.[...] وعندئذ لا فرق بين مصرف إسلامي في هذا الباب وبين مصرف تقليدي. فالمصرف التقليدي يقرض بفائدة صريحة، والمصرف الإسلامي يقرض بفائدة ملتوية، عن طريق الوعود والخيارات، متنصلاً في ذلك من تحمل مخاطر تجارة السيارات ونفقات تخزينها."

وهذا يُذَكِّر بما ورد عن جحا أنه حين سئل: أين أذنك يا جحا؟! حاول الوصول إلى أذنه اليمنى، مثلا، عن طريق الالتفاف بيمناه من وراء عنقه، بدلا من أن يلمسها مباشرة.

في ختام هذا المقال أود طرح بعض الأسئلة، أو التساؤلات، حول إشكالية"الربا" في التصور الفقهي الإسلامي:
هل تم تحريم الربا لعلة، أم لمجرد التحريم(كتحريم أكل لحم الخنزير، مثلا)؟ وإذا تم تحريمه لعلة فهل علة التحريم القائمة وقت حدوث التحريم، من حيث أن المعاملات الربوية كانت تنعقد بين أفراد وكان فيها كثير من الإجحاف بالمقترض إلى درجة قد تؤدي، في حالة عجزه عن رد القرض وفائدته، إلى استرقاقه ولو مؤقتا أو تشريده هو وعائلته؟ هل مازالت هذه العلة الباعثة على التحريم قائمة الآن حيث يتم التعامل"الربوي" ليس بين أفراد وإنما بين أفراد ومؤسسات مصرفية تخضع لقوانين محددة(على سبيل المثال يقتطع القسط بنسبة محددة من الراتب لا تتجاوز الربع) ولا يجوز الحجز على الراتب، وتدفع أقساط القرض على مدة تزيد عن ربع القرن أحيانا؟ أليس في هذا تيسير وتسيير لمصالح الناس وليس عنتا ومشقة تبهظهم؟

ألا تستدعي هذه التغيرات إعادة النظر في مفهوم الربا وإعمال مبدأ"مقاصد الشريعة"، وليس حرفية النصوص، ومبدأ" المصالح المرسلة"؟!

* اعتمدنا في كتابة هذا المقال على المراجع التالية:
1) إسرائيل شاحاك. التاريخ اليهودي، الديانة اليهودية، وطأة ثلاثة آلاف سنة. ترجمة: صالح علي سوداح. بيسان. بيروت. 1995
2) الدكتور عماد أموري جليل. حكم الحيل في الفقه الإسلامي. http://www.humanmag.uodiyala.edu.iq/uploads/pdf/aadad/2007/a26/12.pdf
3) سارية محمد خير فستق. الحيل في الفقه الإسلامي وأثرها في كتاب الأيمان والطلاق(دراسة فقهية مقارنة). بحث تكميلي مقدمة لنيل درجة الماجستير في القضاء و السياسة الشرعية. جامعة المدينة العالمية. ماليزيا. غير منشور. نسخة ألكترونية Word
4) د. رفيق المصري. بيع المرابحة في المصارف الإسلامية. www.kantakji.com/financial-engineering/----.aspx