Atwasat

مرحبا بالحوار

سالم العوكلي الأربعاء 01 أبريل 2015, 11:35 صباحا
سالم العوكلي

في الأسبوع الأول من انتفاضة فبراير رأيت حشداً على طريق الكورنيش بدرنة، فأوقفت سيارتي لأتبين ما يحدث، ورأيت في الأسفل جرافة ضخمة تزحزح صخرة كبيرة بقرب البحر، سألت أحد الواقفين فقال لي : تحت هذه الصخرة يوجد سحر أسود وضعه الطاغية حتى ينتشر البغض والحقد بين الليبيين.
في الجانب الآخر من المدينة ومدن أخرى تكررت على الجدران عبارة تقول: لا حوار قبل الرحيل.

لا أعرف ما الذي ذكرني بهذه القصص، وما إذا كان لها علاقة بما أود قوله. لكني توفت عند بعض المظاهرات الأخيرة التي تحمل شعارا واحدا يقول: لا للحوار.

من جانب..
التظاهر أحد نتاجات المجتمعات الديمقراطية الحديثة، بدأ كتتويج لحالات احتقان جماعية، أو كرد فعل على كل ما يمتهن حقوق وكرامة الإنسان، ولأنه حق إنساني ينطلق من غريزة الرفض عند هذا الكائن، وحق مكتسب احتاجه الزحام البشري حين يحدث خلل في علاقاته المرتبطة بمصالح تلتقي وتتضارب، لكل ذلك وصلت المجتمعات الحديثة إلى أن تجعل من التظاهر حقا دستوريا تنظمه القوانين مثلما تنظم علاقات المجتمع بصفة عامة.
من هذا المنطلق ارتبط مفهوم المظاهرة بالدفاع عن قيم إنسانية نبيلة، ورفض كل ما يهدد حقوق الإنسان العادي عندما يكون أضعف حلقات توزيع السلطة داخل المجتمع، أو ضمن العالم الذي بدأ ينحو تجاه أن يكون مجتمعا واحدا نتيجة المخاطر المشتركة التي لا تهدد حقوقه فحسب ولكن تهدد حتى أكسجينه ووجوده، فتعودنا أن نرى مظاهرات ضد الجوع، أو التهميش، ضد الحروب والاستبداد، ضد تلوث البيئة وتوحش السوق، ضد العولمة أو العنصرية، ولكن أمد الله في عمري وسط هذه الحرب الأهلية العمياء لأرى في ليبيا، التي منها تأتي البدع، مظاهرات ضد الحوار، مظاهرات سلمية تحمل لافتة واحدة: لا للحوار، كتتويج لثورة في الألفية الثالثة من أهم أهدافها الانتقال إلى فضاء سياسي واجتماعي جديد جوهره الحوار.

هذا ما حدث فماذا حصل ؟

سأبدأ محاولتي لتقصي بعض الدروب التي أوصلت هذا المجتمع إلى حالة عامة من الكفر بكل القيم الحديثة التي بشرت بها انتفاضته والتي تحولت إلى أهداف دخلت مدونته الثورية ، بل وجعلت غالبيته تحن إلى زمن الطغيان من جديد.

سأقول، بداية، إن طبيعة مجتمعنا الغالبة هي طبيعة راديكالية، متطرفة في آرائها المحمولة غالبا على انفعالات عاطفية، فإبَّان هذه الانتفاضة رأينا ذلك العناق الأسطوري بين مختلف شرائح المجتمع، وبين مدنه وأقاليمه، وظهرت العديد من الأناشيد والأغاني والهتافات واللافتات التي تجسد هذا الغزل المتبادل لدرجة الغرام، ما جعل الكثير من المحللين يقولون أن هذا الشعب العاشق لبعضه البعض تخلص فجأة من السحر الأسود الذي لوث علاقاته وتخلص من نظامه النفاث في العقد.

ولأنَّ لا توسطَ لدينا انقلب هذا الغرام فجأة بعد أيام من سقوط النظام إلى ضغائن تبدأ ولا تنتهي، بين الأقاليم، والمدن، والشرائح، والكتل السياسية، والقبائل، بل وصلت الضغائن إلى داخل الأسرة نفسها، وتلك المدن التي تعانقت في أغانينا وفي هتافاتنا أصبح الآن مبعوث الأمم المتحدة يركض بين مدن العالم كي يصالح بينها بعد أن عجزت خبراتنا الطويلة في المصالحة عن التقدم خطوة واحدة.

وفي الحالتين غاب الحوار، لأن الحوار خرافة في مجتمع راديكالي على جميع الأصعدة محركه الوحيد العواطف الجياشة، سواء أكانت عواطف حب أو كراهية، ولأن الحوار فعل عقل لا يمكن أن ينمو إلا في بيئة عقلانية. ولأن الحوار صعب بين قوم يعتقدون أن كل ما حدث لنا سببه سحر أسود تحت صخرة قابعة على شاطيء مدينة درنة الساحلية.

سمة أخرى لراديكالية هذا المجتمع وتطرفه في المشاعر، تتمثل في الأشخاص أو المؤسسات أو الدول التي وصل التغني بها إبان الانتفاضة إلى درجة التقديس، والتي ستصبح فجأة ألد الأعداء وموضوعا ثابتا للهجاء وأقذع الشتائم. رفعنا أشخاصا لدرجة السمو ثم دسناهم فجأة تحت أقدامنا، وكل هذا لم يحدث في قرن من التاريخ أو نصفه أو حتى في عقد، لكنه تم في عام واحد وفي مجتمع واحد.

في مثل هكذا صراع يصبح الحوار مستحيلا، لأن عقلية"الياغمة" والاستعجال تفرض علينا سرقة هذا النفط خاما وقبل أن يتحول إلى تنمية أو نقود

الحوار ليس لافتة أو وصفة طبية جاهزة، لكنه ثقافة، عادة ما تكون بين أناس يسعون لأهداف واحدة لكنهم يختلفون على سبل وأدوات تحقيقها، وهو الأمر الذي ينمذج أرضية مشتركة واسعة يمكن الحوار فوقها، أما حين يكون التعصب السمة الأساسية فلا يمكن معها خلق أي مناخ صالح للحوار.

ليبيا جلها صحراء قاحلة، بكل مستويات التصحر، وفجأة برزت وسط هذه الصحراء واحات نفطية جديدة، غير تلك الواحات التي تتنقل بينها القوافل وترتاح في ظلالها. وأبراج النفط التي انبثقت في أرضنا كنخيل معدني فعلت فعلها في هذا المجتمع، الذي انتقل صراعه الطويل من حروب على آبار الماء الشحيحة إلى حروب على آبار النفط السوداء، لذلك سرعان ما تحول الصراع بعد سقوط النظام على هذا الميراث الذي احتكره النظام لعقود، واختفت كل القيم والأهداف التي ثرنا من أجلها، ولم نعد نرى في هذه الصحراء سوى نافورات النفط التي وصلت درجة الطمع فيه إلى سرقته خاما أسود بعد أن كان يُسرق إبان النظام كعملة صعبة أو سهلة من المصرف المركزي.

وفي مثل هكذا صراع يصبح الحوار مستحيلا، لأن عقلية"الياغمة" والاستعجال تفرض علينا سرقة هذا النفط خاما وقبل أن يتحول إلى تنمية أو نقود أو حتى نفط مصفى، لا وقت لكل ذلك لأننا مستعجلون. دائما مستعجلون.

ولأن الحوار وصفة سهلة ورومانسية تعطى ببساطة لكل من يسبح في بحيرة من الدم سيصبح لازمة كل الدول والمنظمات التي تحاول تبرئة ذمتها أو إراحة ضميرها تجاه هذه الكوارث الإنسانية، الكل يقول الحوار هو الحل، مع أنهم يعرفون أنه مستحيل، خصوصا في مجتمعات لم تعرف الحوار زمن السلام والسلم الاجتماعي، ما بالك والجثث تتراكم في كل مكان. إنها لعبة أخرى دولية تعالج أمراضاً مزمنة وقاتلة بالشعوذة، للدرجة التي جعلت مظاهرات في الألفية الثالثة تخرج بلافتات تقول(لا للحوار) في بيئة انفعالية مازالت تعتبر الحوار ضعفا ومسبة.

من جانب آخر ..
ما يسمى بالمجتمع الدولي، والذي لا تمثله إلا الدول الكبرى الدائمة العضوية في مجلس الأمن، التي تملك حق الفيتو حتى ضد الحوار نفسه، هذه الدول لم تكن تعرف أدنى حد مما يسمى الحوار منذ ستة عقود فقط، حين دخلت في حرب عالمية ثانية راح ضحيتها ما يقارب خمسين مليون بني آدم، وعلى رأسها أميركا التي لم تكن تعرف الحوار حين صبت ملايين الأطنان من القنابل على رؤوس الأبرياء الفيتناميين والتي أزالت من الوجود مدينتين بابانيتين وقتلت سكانهما المدنيين ، عبر إلقاء قنابلها الذرية كاختبار لها، ولم تكن تعرف الحوار حين حاصرت وجوعت جارتها كوبا لنصف قرن، ولم تكن تعرف الحوار حين أشعلت الحروب في كل دول أمريكا اللاتينية. كل هذا حدث قريبا وفي النصف الثاني من القرن العشرين ومن عايشوه مازالوا لم يصلوا إلى سن التقاعد.

فعن أي حوار يتحدثون، وفي عالم ثالث سعوا منذ أن تحكموا في الكوكب أن يكون تابعا ومتخلفا، ودعموا فيه لعقود أنظمة استبدادية لا تعرف أبجديات الحوار، بل وتدخلوا في هذه الدول ودمروا مؤسساتها وأشعلوا الفتن فيها، وأوقدوا نار الحروب بين مكوناتها، ثم قبعوا يتفرجون على الدماء، ولا حكاية لهم سوى مطالبة أطراف الصراع بالحوار، وأن الحوار هو الحل.

اجتاحوا بمخابراتهم وعملائهم مسار الربيع العربي، تحت شعار الحرية ونشر الديمقراطية وتأييد الشرعية، فساهموا في سقوط النظم بمؤسساتها، ليؤسسوا لبديل يعرفون جيدا أنه أصل الاستبداد والطغيان، وأن طبيعة بنائه الأيديولوجي ضد الحوار، وهو الإسلام السياسي، مثلما ساعدوا على سقوط الملكيات لينصبوا الاستبداد العسكري ويدعموه طوال عقود.

فعن أي حوار يتحدثون، بعد أن يضعوا كل الأطراف في بحيرة دم، وعن أي حوار يتحدثون، وهم يهندسون أسباب النزاعات في المنطقة ويغذونها، ويرسمون خارطته كما يحلو لهم، عن أي حوار يتحدثون ، وهم يعرفون أن هذه المجتمعات مازالت تعيش بمعرفة وعقلية القرن السادس عشر في أوروبا، وهم لم يعرفوا للحوار سبيلا إلا في نهايات القرن العشرين، عن أي حوار يتحدثون، وهم يدركون جيدا تركة احتلالهم المباشر وغير المباشر لهذه المنطقة.
الليبيون الذين يملكون خبرة طويلة في طرق المصالحة الاجتماعية، كانوا يجلسون بعد كل أزمة وجها لوجه، لأن المواجهة أساسية للخروج من الأزمة اعتمادا على قيمة الخجل عندما تأتي"العين في العين" كما يقولون. وكثيرا ما يخرجون بالصلح وحقن الدماء، وبهذه الحكمة وحدها استطاعوا أن يضعوا حدا لحروب أهلية وإقليمية على مدى قرون مضت.

الآن يأتي مبعوث الأمم المتحدة من ثقافة وتجربة أخرى، ومن قواعد تفاوض وحوار ترسخت في ثقافات مختلفة، لينزح بأصحاب الشأن إلى حوار منفي خارج الحدود، بل ويفاوض كل طرف على حدة دون أن يضعهم على طاولة واحدة، متجاوزا خصائص هذا المجتمع الاجتماعية والثقافية، وهو يدرك أن التنازلات لا يمكن أن تحدث طالما طرفا التفاوض لا يلتقيان معا.

بعض هذه المفارقات هو ما ملأ شوارع بعض المدن بلافتات: لا للحوار. وإن كانت هذه اللافتة متسقة جدا مع واقع الحال، أكثر من تلك اللافتات التي ملأت مياديننا إبان فبراير والتي يبدو أنها كانت مجرد غزل للدول الغربية كي تعترف بهذه الثورة، وكانت كزبدة الليل ساحت بمجرد أن طلعت عليها الشمس.

أتمنى أن نفرق بين رفضنا للحوار الذي يديره برنارد ليون وبين الحوار بمعناه المطلق كوصفة مستقبلية لا يمكن أن يتحقق التعايش والتمدن إلا بها.

وأتمنى أن تكون لافتة(لا للحوار)مجرد شعار منفعل ولا تتحول إلى حكمة تتوارثها الأجيال باعتبار كلام الجدود مقدسا.