Atwasat

ترحال:باريس: موعد مع الحياة

محمد الجويلي الثلاثاء 31 مارس 2015, 10:09 صباحا
محمد الجويلي

الشمس مشرقة اليوم على غير عادتها في باريس، مدينة الجنّ والملائكة، كما أطلق عليها طه حسين، أديبنا الكبير الضرير الذي كانت عيناه وهما المغمضتان ترى في تاريخنا وتراثنا وثقافتنا ومجتمعاتنا ما لا تراه العيون الفاغرة الشاخصة في الفراغ والناظرة في الغياب والذي من حسن حظّه أنّه لم يعش بيننا اليوم وإلّا لرأى بأمّ عينه وقلبه الحالة المزرية التي تردّينا فيها والوضع المأساوي الذي صارت عليه مجتمعاتنا وثقافتنا وفكرنا ولربّما أهدر دمه بسبب آرائه وكتبه ولم يتح له قومه اليوم ما أتاحوه له بالأمس في المنتصف الأوّل من القرن العشرين وبُعيده من حرّية لإعمال العقل والتدبر في تراث العرب والقضايا التي تشغلهم في علاقتهم بماضيهم وحاضرهم ومستقبلهم دون أن يجبر على مغادرة مصر واللجوء إلى إحدى العواصم الأوروبية شريدا ومتروكا لحاله كالكثير من مثقفينا اليوم وفنّانينا الذين حملوا معهم أوطانهم في دفاتر مذكراتهم وفي أحلامهم وكوابيسهم وأوجاعهم.

باريس اليوم، ومع منتصف النهار وقبل أن تكفهرّ السماء بغتة وقبل أن يسدل عليها الليل نوره الاصطناعي، ترتدي حلّة الشمس وتحتفل بالربيع مزهوّة بنفسها في خيلاء وتبرّج فاتحة ذراعيها بحدائقها الغنّاء ومسارحها ومتاحفها وشوارعها الفسيحة وبواخرها الصغيرة التي تمخر عباب نهر السين: أرضا وماء سماء لاحتضان القريب والغريب وضيوفها الزائرين العابرين في مجاهلها كنغم جميل للاحتفال بهم ومعهم بالحياة وسحرها خارج الأسوار والمباني المغلقة.

كفاني وكفى قرّائي موتا وعُذرا لمَن نغّصت عليهم بقلمي لحظات جميلة

قلت في نفسي، وقد كتبت الأسبوع الماضي عن كارثة متحف باردو ما عنونته بـ"موعد مع الموت" تخليدا لذكرى هؤلاء الذين وفدوا على تونس احتفالا بالحياة، فإذا بالموت يحتفل بهم، كفاني وكفى قرّائي موتا وعُذرا لمَن نغّصت عليهم بقلمي لحظات جميلة يستمتعون فيها مع أحبّتهم أو منفردين في عزلة بين أحضان طبيعتنا الخلّابة التي تكاد وحدها في"أوطاننا العربيّة" تقاوم من أجل ألّا يرحل الجمال من ربوعنا نهائيا وإلى الأبد أو مَنْ فتحوا شاشات حواسيبهم بحثا عمّا يفرحهم: رسالة من صديق أو حبيب، طرفة أو نادرة أو ابتسامة وضحكة يسترقونها من لحظات الرعب والكآبة والخوف، فلأكتب إذن موعدا مع الحياة ولأسترق بدوري فرصة تحرّرني من أحزان باردو ومتاعب بلدي وهي كثيرة التي تنضاف إليها مشاق التفكير في قضايا– لم تعد قضيّة واحدة- فلسطين والعراق وسوريا واليمن وليبيا..... واليونان كذلك جارتنا وشقيقتنا في مجد الماضي وبؤس اليوم التي يُخيّر شعبها الآن بين أمرين أحلاهما مرّ، بين الخضوع لمشيئة المانحين الأوروبيين في المزيد من التقشّف والتفقير وبين التمرّد وما ينجرّ عن ذلك من عواقب وخيمة تزيدهم همّا على همّ وبؤسا على بؤس.

مررت من حديقة الليكسمبورغ (Jardin Luxembourg) التي تقع على مقربة من جامعة السوربون وعلى مرأى من مجلس الشيوخ الفرنسي. تفتّح الأطفال مثل الزهور والورود يزينون الحديقة ويضفون عليها بهاء وبهجة ومرحا يلعبون غير عابئين بما يخطّط لمستقبلهم شيوخ فرنسا غير بعيد عنهم ويسابقون العصافير والفراشات والكلاب باختلاف أجناسها ودرجة ضخامة أجسامها: أصغرها في حجم القطّ والأرنب وأكبرها في حجم الجحش والثور الصغير. الحديقة تغصّ بالزهور والورود والأطفال والكلاب. ما أجمل الأطفال والكلاب! نحن، معشر العرب، نعلم أنّه ليس ثمّة على وجه الأرض أوفى في الحيوانات الناطقة وغير الناطقة من الكلب. الكلب جمع الوفاء كلّه ومع ذلك فإنّنا ننعت به أرذل الناس وأخسّهم وأكثرهم غدرا: الكلب ابن الكلب. باريس تحتفل في الربيع بأطفالها وكلابها على حدّ السواء.

يبدو أنّ الفرنسيين رغم محبّتهم للكلاب وتبجيلهم لها ومعاملتهم لها أحيانا أفضل من معاملتهم لبني آدم والذهاب إلى اعتبار الكلب أحد أفراد العائلة إنْ لم يكن الفرد الوحيد المتبقّي من العائلة: رفيق يرعى ويسهر على عجوز أرمل أو أرملة في أرذل العمر هجرها أطفالها بعد أن كبروا واستقلّوا بعيدا عنها حتّى أنّه من آداب الضيافة أن تنتبه عند دخولك إلى بيت فرنسي أن تجامل الكلب وتربّت على رأسه وكتفيه وأن تغدق عليه بعض العبارات اللّطيفة التي تسرّ صاحبه تماما كما تسرّ الواحد منّا كلمات تتغنّى بأطفاله وهم بشر مثلنا مجبولون على النفاق وازدواجية الخطاب ينسبون إلى الكلب الطقس السيء البارد والذي تكون فيه السماء مكفهرّة وتتخلّله أحيانا أمطار غزيرة أكثر من اللّزوم ورياح وعواصف وهو الطقس الغالب في السنة على باريس وشمال فرنسا عموما، فيقولون"طقس كلبيّ" أو "طقس كلاب"(Un temps de chien).

شعرت بالأسى وحسدت الكلاب الباريسية على نعمتها عندما تذكّرت الحال التي عليها بشرنا وكلابنا

لا أخفي عليكم، رغم شعوري وأنا أسير في الحديقة أنّ الحياة تحملني على جناحيها، بل وهبتني أجنحة، قد شعرت بالأسى وحسدت الكلاب الباريسية على نعمتها عندما تذكّرت الحال التي عليها بشرنا وكلابنا كما تذكّرت"عقيل" الكلب الذي قضى نحبه في متحف باردو وتناقل التونسيون صورته حيّا يُرزق، متحفّزا متوثّبا ومليئاّ بالحياة ثمّ مضرّجا في دمائه على نقّالة يُحمل إلى مثواه الأخير. أبّنه التونسيون أحسن تأبين وعدّدوا خصاله ومناقبه، بل ذهب البعض إلى اعتباره أفضل بكثير من البعض من بني ملّتنا وجلدتنا وكادوا يُطلقون عليه الصفة التي ليس ثمّة أسمى ولا أفضل منها لتكريم الموتى"شهيد"، لولا أنّه حيوان غير ناطق وعاقل ولولا أنّ صفة شهيد ذاتها قد وقع التجنّي عليها وتجريدها أحيانا من معانيها وتلويثها مثل الدين بالصراعات الدنيويّة على المال والوجاهة الكاذبة والسلطة. اليوم في باريس، إلى أن يأتي ما يخالف ذلك، الطقس ليس كلبيّا. بل لنتجرّأ ونقلب المجاز الفرنسي رأسا على عقب ولنقل إنّه كلبيّ، ولكن في المعنى العكسي، دلالة على الجمال والبهاء: الشمس مشرقة والسماء زرقاء تتخلّلها بعض السحب، وما هي بسحب، وإنّما هي عبارة عن خطوط طويلة وثنايا خطّها دخان طائرات النقل المدني العابرة لسماء باريس. باريس وفرنسا كلّها هذه الأيّام تعيش على فاجعة سقوط طائرة في جنوبها، قِيل أنّ مساعد الطيّار تعمّد إسقاطها نحرا لنفسه وللآخرين.

هذا إرهاب من نوع آخر لا عهد للبشريّة به، خوف جديد ينضاف إلى المخاوف القديمة أن يتخيّل كلّ راكب طائرة من ضمن الملايين الذين يمتطون الطائرات يوميّا عبر العالم أنّ قائدها أو مساعده يمكن أن يفعلها كما فعلها غيره. العالم ليس على أحسن ما يُرام وعصرنا بلغ من الجنون مبلغا لا عهد للبشريّة به، ولكن الحياة تستمرّ في باريس اليوم..... أرى الحياة تنبع من نوافير الماء في الحديقة ومن عيون الأطفال والشمس تنبجس من وجنتي بنيّة بالكاد استوت على قدميها وحديثة العهد بالمشي ولكنّها تحاول أن تجري، تتعثر وتسقط ثمّ سرعان ما تنهض وكلبها يداعبها ويسابقها ويعلّمها الجري محفّزا لها على المضيّ قدما وهي تمسك بقبضة يدها باقة ورد صغيرة تعمل بكلّ ما أوتيت من جهد ألّا تنفرط منها.

ليس مشكلة إذن في أن نتعثّر ونسقط، سواء كنّا أفرادا أو جماعات ومجتمعات، وإنّما الخوف من ألّا نُنهض مثل هذه البنيّة وألّا نحاول التقدّم إلى الأمام نحو الحياة.