Atwasat

شهادة ميلاد

محمد المغبوب الأحد 15 مارس 2015, 10:48 صباحا
محمد المغبوب

هكذا بدأت أهرم من صرخة الميلاد إلى هذه اللحظة وقد بلغت من العمر باحتساب السنة بعشرٍ مثلها وهو ما ينطبق على أغلب الليبيين. ولدت حسب قول أمي وشهادة الشهود وحضور القابلة، في مثل هذا اليوم بعد أربع سنوات من منتصف القرن الماضي حيث حطت الحرب أوزارها وبدأ تشكل السلطات العربية بحدود جغرافيا جديدة بخطوط غربية، ووجدتني ضمن الحدود الليبية تحت حكم ملكي لم يستطع العد حتى تسعة عشر فانهار تاجه بمغامر وحفنة من عسكريين نواياهم الله يعلمها خطفتهم شهوة السلطة انسحبوا إلى جنانهم تاركين سيدهم يتحكم في كل شيء وكل سنة يُرحِّل أحلامنا إلى السنة التي بعدها حتى اعتدنا المرارة على اللسان وكدنا أن نسلم أنه القدر المحتوم. هو الآخر مع الليل جاء وعند الليل تم ترحيله إلى هناك.

جيل الخمسينيات جيل خيبة وأوهام مؤلمة فلا حلم صار حقيقة ولا من أمل مرتقب

فرح من فرح، وحزن من حزن، تشرئب أعناقنا إلى ما سيحمله يوم غد. أبي رحمه الله تركني في السادسة من عمري، ولا الملك أو ورئيس المجلس العسكري ود أن يصير لي أبا فيما الوالدة أطال الله عمرها واصلت البقاء جانبي مع أخوتي بدافع التضحية والنضال والأمومة معا، أتدحرج كل يوم مع كل الليبيين إلى هاوية تبتعد مرة وتكاد أن تبتلعني أخرى، وبين المسافة صرتُ وسط انشعالي الدائم يتفصيلات الحياة الدودية أحلم بتحسن الحال وأرى من خلف الوهم العربي جنة بعرض وطول مساحة البلاد، وهكذا أيضا بقيت أركض وأركض ولا أصل حتى إلى بابها فالحراس كثر والدخول إليها ببطاقة لم يمنحها الملك ولا العقيد العسكري ولا من جاء بعدهما أو يأتي به الغد.

طوال السنوات التي يلوكها فم الزمن وتطحنها أسنان غول الأحلام الوردية عثرت على قلم وقرطاس أكتب ما يعن لي وما يمر بخاطري حتى وصلتُ إلى إصدار ما يقارب الثلاثين إصدارا أدبيا، تأكدتُ بيقين تام أنها لا تساوي ثمن رغيف خبز تحصل عليه بعد أن يحين دورك في طابور أمام فرن أو أي سلعة أخرى زمن الحرب الأهلية التي تشن في أغلب بلاد العربية.

طوال السنين العجاف عشتُ أحمقَ يخاف على عياله الذين تورطوا فيَّ، وعلى الذين بين كتفي

لا أحد منا يصل إلى هدفه بخطوات من ألم ومعاناة ولادة عسيرة كل يوم، فالخوف يطمس بريق الروح حتى إن كل الكتابات النيرة التي حبرها من دمع ودم لم تفلح في إنارة طريق وبناء قواعد مشروع حياة للآخرين. هي الوظيفة التي يمكن أن تحقق لأي منا معيشة تكفي حفظ الرمق تمد يدك إلى صراف صاحب الدولة مرة في حينه ومرات بتأخير شهور، وأنت توهم نفسك بأن هذا ما قسمه الله لك من رزق في المال والعيال. طوال السنين العجاف عشتُ أحمقَ يخاف على عياله الذين تورطوا فيَّ، وعلى الذين بين كتفي.

حتى الحرب في تشاد لم تحزه فعدت سالما أمارس حماقاتي كل يوم متأكدا أن لا شيء سيحدث وأنه لا جدوى من أي شىء ويكفي أن أعد السنوات وفيها أكبر كل سنة عشر سنوات، فما يجري حولي وما زال يجري في البلدان المجاورة يستغرق عشر سنوات تدميرية في بلاد أخرى غربية مثلا.

جيل الخمسينيات جيل خيبة وأوهام مؤلمة فلا حلم صار حقيقة ولا من أمل مرتقب ولا انتظار لهم إلا إنفاق الوقت المتبقي لهم في العيادات والمصحات وفي العزاءات عند المقابر وفي الخيام وبعضٍ منه في مشاهدة التلفاز وهو يعرض مشاهد الخراب ويدلق الدم عليهم من شاشاته، تأخذهم الدهشة في كيفية صناعة الفتن ونسج الأكاذيب وكيف يوزع الناهبون أموالهم الحرام على مصارف عواصم الغرب وهم يرتدون بدلا فاخرة بربطات عنق ملونة وياقات منشاة جيدا يلوكون كلاما لا منطق له ويوزعون على الجميع أوهامًا يريدوننا أن نصدقها.

مثل هذا اليوم، اليوم يتكرر بضعف السنة عشر سنوات وغدا أزداد يوما وخلالها ما نفعتني قراءة آلاف الكتب ولا ملايين الكلمات التي كتبتها نثرا وشعرا وقصا ورواية كما لم ينتفع بها غيري فلم أعد إلا متساكنا بشهادة ميلاد وببطاقة هوية كأن شيئا لم يحدث وآخر لم يكن ولا أمل إلا رحمة من الله ودعاء له عند كل سجود في صلاة. اللهم أصلح لنا كل حال. آمين.