Atwasat

محكمة بحجم الوطن

سالم العوكلي الخميس 12 مارس 2015, 10:17 صباحا
سالم العوكلي

كنت أستمع لشريط الواحة، إعداد عبدالله منصور، ألحان محمد حسن، وأداء: عادل عبدالمجيد، محمد حسن، مريم السعفي، خالد الزواوي، حين قال لي أحد الصادحين باسم الثورة: مازلت تسمع في تفاهات محمد حسن؟! يبدو أنك طحلب. نظرت إليه ولم أتفوه بشيء، وماذا يمكن أن يقال وسط هذه الهستيريا التي تجتاح الغالبية؟ وفي خضم هذا المحو المنهجي لماضي شعب برمته، أجتهد في كل الميادين من أجل أن تستمر الحياة كما أريد لها أن تكون فوق هذا الكوكب، والأمر كله لا يعدو كونه نوعا من المزايدة الرخيصة، وحالة مَرَضية من التطهر الجماعي الذي يصاب به من توهموا أنهم تلوثوا بمجرد أن صادف وعاشوا هذه العقود، وعليهم أن يتبرأوا من مرحلة كاملة شكلت في الواقع أكثر من نصف أعمارهم.

ومن جديد تحيلني هذه الظاهرة إلى اقتباس مهم، للروائي ميلان كونديرا، في كتابه الممتع والعميق(الستارة)، يقول:"عندما تحدثت مع التشيكيين، بعد عام من نهاية الشيوعية، سمعت في حديث كل واحد منهم هذه الصيغة التي أصبحت طقسية، هذا التمهيد الإلزامي لكل ذكرياتهم وكل أفكارهم:"بعد هذه الأربعين عاماً من الرعب الشيوعي" أو"الأربعون عاما المرعبة"، وعلى الأخص:"الأربعون عاما الضائعة". أنظر إليهم: هؤلاء الذين يتحدثوا* لم يرغمهم أحد على الهجرة، ولم يسجنوا، ولم يطردوا من عملهم، وحتى لم ينظر إليهم بإزدراء، جميعهم عاشوا حياتهم في بلدهم وفي منازلهم وفي عملهم، وكانت لهم إجازاتهم وعطلهم وصداقاتهم وغرامياتهم، وباستخدام تعبير"الأربعون عاماً المرعبة" يختصرون حياتهم إلى مظهرها السياسي فقط. لكن حتى التاريخ السياسي للأربعين عاما المنصرمة، هل عاشوه حقاً كقطعة واحدة غير متميزة من الرعب؟ هل نسوا السنوات التي كانوا يشاهدون فيها أفلام نورمان، ويقرؤون كتب هربال ويترددون على المسارح الصغيرة المنشقة ويحكون مئات النكات، ويسخرون بمرح من السلطة؟. حين يتكلمون جميعاً عن الأربعين عاما المرعبة، فهذا يعني أنهم يحولون إلى(أورويلية) ذكرى حياتهم الخاصة".

تفرض طقوس التطهر هذه على الغالبية نسيان أو تناسي الحقبة برمتها، واختزال حياتنا في جانب النظام، والنظام فقط، وبممحاة سحرية يحاولون شطب الزمن منذ أول سبتمبر 1969 إلى 17 فبراير 2011، ويجعلون من هذه الحقبة سيرة جريمة فقط، وكل ما أُنجز فيها لا يخرج عن كونه جزءا من الجريمة. وهذا في الواقع يشكل جوهر الطغيان على مدى العصور، وتكرارا لأحد أخطاء النظام السابق الفادحة، الذي عمل بمثابرة على محو المرحلة السابقة له، بنضالها السياسي وبإبداعاتها ووجدانها، فوضع المجتمع كله في حالة انقطاع تاريخي وفصام روحي، ووضع نفسه في مأزق استحالة محو ذاكرة جماعية وبدء التاريخ من الصفر.

هذا النظام الذي لم يكن شرا مطلقا، مثلما المرحلة بعده لم ولن تكون خيرا مطلقاً، لأن المراحل التاريخية متداخلة بشكل معقد وليست مفصولة بخط هندسي.

عمل النظام السابق على شطب المرحلة السابقة له برمتها، منذ الاستقلال إلى قبل الأول من سبتمبر بليلة، ورفع بمبالغة زائدة عمر المختار كرمز وحيد في تاريخ النضال الليبي، ليتوقف التاريخ بعد إعدامه، ولا يتحرك إلا مع الانقلاب. وبالمنهج نفسه سيعود الغالبية من اللليبيين بعد فبراير إلى مرحلة الملكية بكل رموزها، ويُمسح التاريخ منذ 1969 إلى 2011. وكل مجتمع يحذف حقبا من تاريخه، أو جزءا من ذاكرته، سيخلق مناطق معتمة تشكل عثرات في طريقه إلى المستقبل، وكل مرحلة محذوفة مثل هاوية على الجسر المفضي إلى الضفة الأخرى.

فنظام القذافي لم يأتِ من المريخ، أو يهبط من جحيم قصي، لكنه كان نتاجا طبيعيا لثقافة هذا المجتمع بكل ما يشوبها من تخلف وميل إلى العنف وذهنية إقصاء، ولذلك لن نستغرب ما يحدث الآن من تنكيل وطغيان يتجاوز تلك المرحلة، لأن الأرض نفسها التي لم تُستصلح ستظل تُنبت الأشواك نفسها مرارا، ولأن هذه القاعدة الاجتماعية قادرة على ولادة الملايين من الطغاة على جميع الأصعدة.

بمعنى آخر حين نختزل حياتنا فقط في جانبها السياسي سنحيلها إلى كابوس يشبه خيالات جورج أورويل في روايته(1984) التي كتبها عام 1949 والتي وصف فيها بشكل دقيق تحول القيم البشرية إلى أشياء هامشية، ومن ثم سطوة الأحزاب السلطوية والشمولية على الناس والشعوب ليكونوا مجرد أرقام هامشية في الحياة بلا مشاعر ولا عواطف وليس لديهم طموحات أو آمال، حيث يعملون كالآلات خوفا من الأخ الأكبر ولينالوا رضاه لأنه يراقبهم على مدار الساعة.

وبهكذا اختزال للحياة الاجتماعية، ونسيان كامل للكائن الإنساني، يوجه كونديرا نقده الحاد لهذه الرواية ويشتق منها مصطلحه"الأورويلية" الذي يحيل إلى فكرة اختزال الوجود الإنساني المستحيل إلى مظهره السياسي والإداري فقط.

فهل سنحذف موسيقى الأربعين سنة لأنها ملوثة بالمرحلة؟ وننسى أن معظم السيمفونيات الرائعة أُلفت لتُعزف في بلاط الأباطرة والقياصرة، وذهب هؤلاء الطغاة وبقيت تلك المعزوفات جزءا من وجدان وروح الإنسانية، وهل سنحذف كل الأدب والشعر الذي كتب خلال هذه المرحلة حتى وإن كان ينتقدها جذريا؟ لأنه حين تنصب محكمة غير مرئية لحقبة زمنية تصبح محكمة عمياء لا ترى سوى كون هذه الإبداعات كانت في مسرح الجريمة، ما يجعلها مشبوهة ، بل متهمة، بل مذنبة وتستحق المصير نفسه لرأس النظام، ليس القتل فقط ولكن إخفاء الجثة من الوجود. هل سنحذف كل الصحف والمجلات المهمة والندوات والمهرجانات ومؤسسات المجتمع المدني، حتى وإن كانت كلها تؤسس لثقافة بديلة وتسعى للأهداف التي ننادي بها الآن؟.

وهنا لا تكمن القضية في المحتوى أو الرؤيا، ولكنها تكمن في النظر إلى الماضي المغبش من خلال ومضة ضوء في الحاضر، والأمر كما يصفه كونديرا في كتابه(الوصايا المغدورة):"الإنسان هو من يتقدم في الضباب، لكنه حين ينظر إلى الوراء ليحكم على أناس الماضي، فإنه لا يرى أي ضباب يغمر طريقهم. ومن حاضره الذي كان مستقبلهم البعيد، سيبدو له طريقهم واضحا تماماً ومرئياً في كل امتداده. عندما ينظر الإنسان إلى الوراء، يرى الطريق، ويرى الناس الذين يتقدمون، يرى أخطاءهم، لكن الضباب لم يعد موجوداً.... وقد يتساءل المرء: من هو الأشد عمى؟ مايكوفسكي الذي لم يكن يعرف، وهو ينظم قصيدته عن لينين، إلامَ ستفضي اللينينية؟ أم نحن الذين نحاكمه بالعودة عشرات السنين إلى الوراء من دون أن نرى الضباب الذي كان يغمره؟"

سيصبح اللون الأخضر تهمة، ونحذفه من حدائقنا وملابسنا وديكورات بيوتنا، وسنحذف الكثير من المفردات من قاموسنا، ونحذف حتى المشاريع الكبرى التي أُنجزت، ويتحول كل شيء إلى نوع من الأصنام

وفعلا تمضي مرحلة الضباب والالتباسات فنُسقط شعاع اللحظة الاستثنائية- التي نعتقد أن كل شيء وكل أحد تعرى فيها- على من مشوا وسط الضباب الذي لفنا جميعا، لكن من يدفع الثمن فقط أصحاب المشاريع والشهرة، أما القابعون في الظل والذين لا يتمتعون بأية مواهب تضعهم في دائرة الضوء، هم من ينصبون المحكمة، وهم من يمارسون بنشاط أساليب الإقصاء والتطهر معتمدين على كونهم نكرات لا يتذكرهم أحد ولا يعرف ماذا فعلوا وسط ذاك الضباب، وبالتالي سيصبح كل فنان، وكل صاحب مشروع، وحتى كل من تقلد منصبا، هدفا للتلويث المنهجي، والعزل السياسي والاجتماعي، دون النظر إلى فحوى منجزه، ودون حتى إعطائه الحق في محاكمة عادلة!!!.
سيصبح اللون الأخضر تهمة، ونحذفه من حدائقنا وملابسنا وديكورات بيوتنا، وسنحذف الكثير من المفردات من قاموسنا، ونحذف حتى المشاريع الكبرى التي أُنجزت، ويتحول كل شيء إلى نوع من الأصنام اللامناص من تحطيمها كي يسقط الباطل، لكن في مثل هكذا هستيريا، حتى وإن سقط الباطل فالحق لن يجيء، لأن الحق مرتبط بالنزاهة عندما يحين وقت مساءلة الذاكرة، مرتبط بالإنسان ككائن مدرج بتاريخه الخاص في التاريخ العام، وبالحياة وهي تتقدم، وبالقدرة على استجواب الماضي وإنصاف ما يستحق الإنصاف كي نبجله، وإدانة ما يستحق الإدانة لنتحاشى الوقوع فيه مرة أخرى، والأهم من ذلك عدم اختزال حياة شعب وتجربته في جانبها السياسي فقط، مع ملاحظة أن حتى الجانب السياسي لا ينظر إليه ككتلة واحدة، ويحتاج إلى استجواب موضوعي، من شأنه أن يقشع الغشاوة عن عيوننا كي نرى بكشاف الماضي طريقَ المستقبل، وكل ما يحدث الآن من تخبط وفوضى وخسارات فادحة، سببه هذه الغشاوة المتأتية عن وهمِ كوننا نستطيع أن نحذف حقبة كاملة ونبدأ من الصفر بعد كل طقوس التطهر من نجاسة الماضي. ولأن من يطلق نيران مسدسه على الماضي يطلق نيران مدافعه على المستقبل، فلن نستغرب مشاهد الدخان في مدننا والمقابر الجماعية والجثث المتناثرة ، لأنه في هذه الحالة القصوى من العمى لن يكون إطلاق نيران المدافع على المستقبل تعبيرا مجازيا، بل واقعة، نرى يوميا ما تتركه من دمار في المدن وخراب في الأرواح.

إن التحديق في كل ما هو مضيء في الماضي يملؤنا بالنور والتفاؤل، وهو ما يجعلني استمع بمتعة لأغاني الواحة الليبية، رغم امتعاض صديقي المتطهر الذي لم أجرؤ على نقاشه، لأن المصاب بهذا الوسواس لا ينصت، ولأنه نصب محكمته الشاملة وأصدر حكمه غير القابل للاستئناف، ولأن أنشوطته تتدلى أمام كل ما يمت للمرحلة السابقة بصلة، ولأنه منغمس في ذروة طقوس تطهره من الماضي بما فيه ماضيه الشخصي، والمشكلة أن هذه الحالة الشاملة من التطهر من وسواس الماضي بأوهام الحاضر يكشف الوقت أنها غير مجدية، كمن يتطهر من النجاسة العالقة به بماء برّاق، يكتشف مع الوقت أن هذا الماء مثل ماء الصرف الصحي المعالَج، رغم بريقه غير طهور.

كان بإمكاني أن أقول له إنها إحدى الملاحم الموسيقية الإنسانية المهمة التي توثق عبقرية وجدان أناس، في مكان ما وزمان ما، قاوموا قسوة الحياة والمكان بأغاني الحب والمطر والفراق وهدهدة الأطفال، ما يجعلها عابرة للزمن وفوق إدراجها في أي سياق مرحلي.
ستبقى موسيقى محمد حسن الخالصة والتي استلهمها من جماليات هذا المكان خالدةً، وسيذهب إلى النسيان كل الطغاة مع خدوش أظافرهم على لوحات الفن العظيم، كل الطغاة قبل فبراير وبعده، الذين أحرقوا ومازالوا يحرقون جمال هذا الوطن الذي يجمعنا والذي اتفقنا على تسميته ليبيا.. ليبيا التي تشبه حرفا في سلم الموسيقى، الموسيقى التي توحد العالم إذ تفرقه السياسة.

بإمكاننا أن نزيل اللون الأخضر من العلم الممثل للحقبة، لكنه سيظل يطل علينا كل ربيع عشبا في السفوح وعلى جنبات الطريق، لأنه يستحيل اختزال هذا اللون الجميل في تجليه السياسي فقط.

مثلما يستحيل اختزال الموسيقى في لحظات ضعفها أو في ما تدفعه من رشاوى كي تعبر أنفاق السلطة الخانقة، سُميت عبر العصور الضريبة التي يدفعها الفن كي لا يموت في قلب الرعب المعادي لكل ما هو جميل.

وفي النهاية إذا لم نستلهم كل ما هو مضيء في تاريخنا، ونحشد طاقات الذاكرة الإبداعية التي تؤكد جدارتنا بالحياة والتقدم، فإننا سنقضي كل الوقت الذي من المفترض فيه أن نبني وطننا، نقضيه على مقاعد هذه المحكمة الواسعة، نتهم ونقصي ونشتم ونعزل بعضنا البعض، لنكتشف أن هذه المحكمة المنصوبة بحجم الوطن ليس بها قاضٍ ولا شهود ولا ميزان، وهي مجرد اختراع نفسي لتطهير الذات، ولحرق قطعة من الزمن الملتبس كما تحرق الملابس من زمن الوباء، ومن يحرق الزمن في المكان لا مناص من أن يحرق المكان معه.

* هكذا في الأصل، والصحيح: يتحدثون. لكننا لم نصوِّبها لأنها واردة في اقتباس.(المحرر).