Atwasat

انغماسية التبرير

صالح الحاراتي السبت 28 فبراير 2015, 06:54 مساء
صالح الحاراتي

تمرُّ بنا لحظات ومواقف يفزع فيها الجميع ويبدأ فيها العقل بالإنكار وعدم التصديق لما يحدث من أفعال شنيعة.. لحظات يستعصي فيها تفهُّم قَطع رقبة إنسان من الوريد إلى الوريد بكل برود، ويبقى لغزًا حقيقيًّا لأي إنسان يحاول أنْ يفهم، كيف بالإمكان أنْ ننحط كبشرٍ إلى هذا الحد.

ﻻ نواجه تلك اللحظات بما تستحق من التدبُّر والتفكير والبحث في الأسباب، ونلجأ إلى الهروب من المواجهة من خلال التبرير

ولكننا، للأسف، ﻻ نواجه تلك اللحظات بما تستحق من التدبُّر والتفكير والبحث في الأسباب، ونلجأ إلى الهروب من المواجهة من خلال التبرير... عندما يذبح ويقطع رأس رهينة من (الفرنجة) على يد داعشي.. ينبري البعض لمحاولة إلقاء التهمة بعيدًا، مبررًا أنَّ «الفرنسيين فعلوا ذلك خلال استعمارهم الجزائر»، وأنَّ الأمرَ لا علاقة له بالإسلام وﻻ بموروثنا الثقافي!

عندما حدث ما سمَّته «القاعدة» بـ«غزوة مانهاتن» في 11سبتمبر، هلل البعض وبرَّروا وقالوا تستحق أميركا ذلك وأكثر أنَّها تساعد إسرائيل..

ولم ينتبهوا إلى أنَّ قتل آلاف الناس المدنيين أمرٌ يصعب تبريره في كل الشرائع.. وهو أمرٌ يشوه الإسلام ولا يخدمه..

عندما تعاطف العالم مع فرنسا في أحداث مقتل صحفيي مجلة شارلي وحضر «النتنياهو» للمسيرة اﻻحتجاجية في باريس.. قال البعض إنَّهم يستحقون ذلك.. إنَّها صحيفة تطاولت على شخص الرسول وهناك الإرهابي نتنياهو حضر التظاهرة، ولذا يستحقون!! نبرِّر ولا نلتفت لمردود ذلك الفعل وضرره بالدين قبل القائمين بالجريمة..

عندما يتم حرق الطيار الأردني، معاذ الكساسبة، يتولى بعضهم الأمر مبرِّرًا بكل بساطة واختصار بأنَّه قصف «داعش» وهي انتقمت منه.. وﻻ ننتبه إلى أنَّ فعل الحرق أمرٌ بشعٌ وأنَّ مبرر وروده في موروثنا الديني عليه اختلافٌ كبيرٌ وحرمته أكبر وأشد، وحتى وإنْ صحَّ فلسنا معنيين باتباعه.. ﻷنَّ مآﻻت مثل هذا الفعل ﻻ تخدم الدين قطعًا.

عندما تم ذبح عمال مصريين في ليبيا من قبل «داعش» قال البعض.. وما الذي ذهب بهم إلى هناك، ولم تذهب عقول أولئك البعض إلى لماذا يتم ذبح أهل كتاب مسالمين؟

ما يثير الأسف هو أنَّ لدينا دائمًا القدرة على التبرير! وأشهر هذه التبريرات هو ما دأب عليه غالبية مَن اعتلوا منصات وشاشات ومنابر الخطاب الديني

وأشهر هذه التبريرات هو ما دأب عليه غالبية مَن اعتلوا منصات وشاشات ومنابر الخطاب الديني، حيث بقوا يوهمون الناس «بتبرير» وما يحدث من فضائع ومجازر من خلال استحضار «شماعة » العامل الخارجي بصفته السبب وراء ما يحدث ورغبته في تشويه الإسلام! بدل أنْ يبذلوا الجهد في دراسة الواقع الداخلي وسبر علاته والبحث عن أسباب أخطائنا وكوارثنا.. التي أظنها- تتمثل في /وصادرة عن- فُهوم دينية خاطئة ولدت ثقافة عنفية متوارثة تُشرعِن الذبح وإزهاق الأرواح.

لقد تعوَّدنا أنْ نمارس التبرير في كل شيء حتى ﻻ نحمِّل أنفسنا تبعات أعمالنا.. وحتى نستمر في وهمنا بأننا نحافظ على الدين وﻻ نريد اقترانه بتلك الأفعال الشنيعة. وعندما تصل بنا ثقافة العنف إلى منتهاها ويشتد الصراع والتناحر والتقاتل فيما بيننا نلجأ إلى المشجب الجاهز دومًا «إنَّها مؤامرة خارجية» تحاك ضدنا لتشويه الإسلام، ونتناسى أنَّه حتى ولو قبلنا هذا التبرير فإنَّ المتآمر الخارجي لم ولن ينجح إﻻ إذا وجد بيننا أناس تشبعت عقولهم بثقافة العنف وتظن أنَّها تحسن صنعًا، ولذا تتكون حالة يمكن أنْ نسميها «القابلية للتآمر» تمامًا كالقابلية للاستعمار التي أشار إليها مالك بن نبي والقابلية للاستحمار التي أشار إليها د. علي شريعتي!!

أريد أنْ أشير إلى تبرير وتحليل نفسى متميز.. يقول.. إنَّ النفس البشرية قد فُطرت على عدم التسليم بالخطأ، ولذا فإنَّها تُستدرج في اللاوعي إلى تبريره، والتبرير في علم النفس هو نوعٌ من الكذب ولكنه كذبٌ في اللاوعي وهو حيلة من الحيل أو الآليات الدفاعية التي تبرِّر بها النفس حيودها عن إنسانيتها وتتهرَّب بها أمام عجزها عن تحمُّل التبعات المفروضة عليها إزاء هذا الموقف أو ذاك.. فالإنسان لا يتعرَّض لهجمات النقد عاريًا، وإنما يحاول أنْ يستتر بمتراس، ومتراسُ الإنسان في هذه الحالات هو قدرته التبريرية، كالأطفال حين يلوذون إلى تبرير أعمالهم المختلفة.

ولكن هل نستسلم لمثل هكذا كذب وخداع للنفس؟
ما نراه اليوم في واقعنا من عنف وتوحُّش يستدعي أنْ نراجع أنفسنا.. فظاهرة العنف هي ظاهرة مركبة، تنشأ عن اجتماع جملة من العناصر والأسباب على النحو الذي لا يمكن إرجاع هذه الظاهرة إلى سبب أو عنصر واحد دون سواه. ولا يمكن فهم هذه الظاهرة إلا ضمن شبكة العوامل والأسباب التي أفضت إلى بروزها وأدت إلى ظهورها. نعم..(ﻻ نتوقَّع من مواطن عاطل فقير جاهل مريض أن يكون مسالمًا أو متسامحًا، فضلاً عن أنْ يكون إنسانًا سويًّا؟؟ !!) ونعم، بيئة الجهل والعوامل الاقتصادية لها فعلها، ولكن ﻻ زلت أرى أنَّ الفُهوم الدينية الخاطئة هي سبب رئيسي لثقافة العنف السائدة.. وأنَّ ما يتمُّ من انغماس في التبرير هو نتاج ثقافة اعتدنا عليها ولا نستطيع أنْ نتجاوزها، بعد أنْ أدمنا التعامل معها؟ والواجب يستدعي منا عند مواجهتنا أيَّ كارثة أنْ تتجه أنظارنا للداخل وما به من علل وﻻ نسارع بإلقاء اللوم والتبعية على الخارج المتآمر علينا دائمًا!

ليس من الإنصاف أنْ تستمر معنا حالة الانغماس في التبرير التي تعني إعفاء النفس من المسؤولية عن التقصير، والبحث في الأسباب ووسائل العلاج، بدل إلقاء التبعة على الآخرين..

إنَّ قراءة التاريخ بغرض الاستفادة ترشدنا إلى أحداث عاشتها أمم أخرى في زمن بعيد تتشابه مع واقع ﻻ زلنا نعيشه اليوم.. في أوروبا العصور الوسطى كانت سلطة الكهنوت الديني وصكوك الغفران، مارست إرهابًا دينيًّا واستبدادًا وتعسفًا وجمودًا فكريًّا معاديًّا للتقدم, تَجسَّد ذلك في محاكم التكفير, التي كلفت أوربا ملايين الضحايا, وارتكبت أبشع جرائم القتل والتعذيب الجسدي والنفسي..

ولعل «داعش» تمثِّل اليوم تجسيدًا محليًّا لتلك الحقبة التي تجاوزتها أوروبا... أوروبا التي يوجد في متاحفها الخاصة بالقرون الوسطى كثيرٌ من أدوات التعذيب الجسدي التي اُستُخدمت آنذاك عدا عما ينقله لنا التاريخ المكتوب من بشاعة التنكيل من الخازوق إلى شوي للجسد وتعليق على الأبنية, وقلع للعيون, ومحارق جماعية للرجال والنساء والأطفال... ذلك هو الإرهاب الديني الذي اُستُخدم هناك.. وتجاوزته أوروبا وكان ثمن الحرية الذي دفعته غاليًّا، حيث أُزهقت ملايين الأرواح حتى نجحوا في توضيح حدود العلاقة بين الدين والسياسة وتم الإقرار النهائي ضمن منظومة قيم ودساتير وأنظمة حكم تحترم الحريات الشخصية والمعتقدات الدينية على السواء وتقدِّس حقوق وكرامة الإنسان.

يحيي التطرُّف المتأسلم بمسمياته المختلفة، وأبرزها «داعش»، تقاليد الكهنوت الديني في السبي والقتل والتهجير والتعذيب وإراقة الدماء

اليوم، وللأسف، يحيي التطرُّف المتأسلم بمسمياته المختلفة، وأبرزها «داعش»، تقاليد الكهنوت الديني في السبي والقتل والتهجير والتعذيب وإراقة الدماء, في استنساخ لنسخة مقاربة ومتماهية مع أوروبا القرون الوسطى وتقليدًا لممارسات تمت في تاريخ المسلمين من طغاة وجلادين أهدروا فيها كرامة الإنسان قتلاً وذبحًا وتنكيلاً..

الفرق بين الأمس واليوم هو فرق قرون من الحضارة والتمدُّن.. بينما نحن ﻻ زلنا نقرُّ ونمعن في التبرير والهروب إلى الأمام... ونلقي بمزيد من الضبابية والتعمية على الحقيقة بإلقاء مصطلحات رنانة فضفاضة دونما ضبط وﻻ إيضاح لتبرير أنَّ الإسلام بريء من أفعال «الدواعش» دون أنْ ننتبه إلى أنَّ كتبَ التراث مليئة بالفتاوى التي تؤسِّس للقتل والإرهاب..

.. حددوا لنا أين التشويه في إسلام «داعش» .. والذى هو تشويه للإسلام؟..

وهل هناك مجتمعٌ أو دولة في عصرنا الحالي يمكن لنا أنْ نقول إنَّها تمثِّل الإسلام؟
.. وإلى متى نبقى في سجننا الدائم أسرى خيارين.. أدناهما نظرية مؤامرة، وأقصاهما «كفار ويستاهلوا»؟!