Atwasat

شَعْواء وعَشْواء

عمر أبو القاسم الككلي السبت 07 فبراير 2015, 09:21 مساء
عمر أبو القاسم الككلي

أذكر أن صديقا حكى لي مرة، منذ عقود، أن خالا له اشترى دارة [فيلَّا] بخمسة آلاف جنيه (وفق أسعار حقبة الستينيات) وفي غضون أربع وعشرين ساعة تم تناقل الخبر على أساس أن سعرالدارة كان اثني عشر ألف جنيه، أي ما يفوق الضعف!

"الزيادة ابتدأت مني"
قال الصديق.
"فأنا نقلت الخبر إلى أمي قائلا: أخوك اشترى فيلا بخمسة، أو ستة، آلاف جنيه!. ويبدو أنها حين نقلت الخبر إلى أختي قالت بأن الثمن ستة أو سبعة آلاف جنيه! وهكذا كان كل شخص يزيد ألفا على الرقم الأخير الذي سمعه، كما في المزايدات، حتى وصل الرقم إلى ما وصل إليه!".

هذه الحكاية تعطي صورة عن تكون الإشاعة في المستوى الاجتماعي العادي في المجتمعات التقليدية، حيث يوجد ميل إلى المبالغة. فالمبالغة في هذا المثال تعمل على جبهتين: فخامة الدارة، من جهة، واقتدار مشتريها، من جهة أخرى. هناك، بالطبع، عوامل أخرى وراء تضخيم الواقائع الفعلية، ليس هنا مجال تعدادها وتحليلها، من ضمنها رغبة بعض الرواة في مَهْر رواياتهم ببصماتهم الخاصة.

لكن الإشاعة غادرت، منذ فترة مبكرة من تكون المجتمعات البشرية، في ما يبدو، هذا المستوى الاجتماعي المحض إلى مستوى آخر يتم فيه تعمد تضخيم الحدث، أو حتى اختلاقه، قصد توجيهه لخدمة أغراض معينة. ذلك هو المستوى السياسي الذي تشترك فيه الأنظمة والمعارضات السياسية، ويدخل في ذلك نسبةُ أقوال أو أفعال إلى شخصيات معينة، قديمة أو معاصرة، مقدسة أو مبجلة، لتمجيدها واستخدام أقوالها وأفعالها كحجة مقنعة، أو، بالعكس، للحط من شأنها. لكن هذا موضوع آخر.

لعل نظام معمر القذافي كان النظام الأكثر اعتمادا على سلاح الإشاعة وبشكل فج وغير عقلاني، وحين وجد نفسه في المأزق الذي أشرنا إليه (مأزق مواجهة الإشاعات المضدة) عمد إلى محاربتها بحيلة ساذجة مكشوفة.

ما نريد أن نركز عليه الآن هو استخدام الأنظمة الشمولية لسلاح الإشاعة في محاربة خصومها السياسيين، أو في تحذير وتخويف "رعاياها" من توجهات فكرية غير مرغوبة من قبلها، أو جسِّ نبض الشارع وتخمين ردات فعله إزاء إجراءات ليست في صالحه تنوي اتخاذها، أو كتلهية له وجعله يتوقع أفعالا إيجابية من السلطة فيؤجل التعبير عن غضبه، وما إلى ذلك. وبمضي هذه الأنظمة في استخدام أداة الإشاعة على نحو مكثف تجد نفسها، بعد فترة، في مواجهة "الإشاعة المضادة" وتكتشف أن الميل العام في الشارع ينحو نحو اعتبار الإشاعات المضادة حقائق والنظر إلى إشاعاتها كأكاذيب، فتجد أنها انقادت إلى موقف يضعها أمام معادلة عصية على الحل. فهي محتاجة إلى وسيلة الإشاعة في ممارساتها الهادفة إلى صيانة سلطتها وتكاملها، ومحتاجة إلى حل عبقري يجعل المواطن يصدق إشاعاتها، الخالية غالبا من أية مصداقية، ويكذب الإشاعات المضادة التي لا تخلو، غالبا، من قدر من الحقيقة، أو، حتى إن لم تكن كذلك فإن سلوك النظام المعتاد يرجح قابليتها للتصديق.

ولعل نظام معمر القذافي كان النظام الأكثر اعتمادا على سلاح الإشاعة وبشكل فج وغير عقلاني، وحين وجد نفسه في المأزق الذي أشرنا إليه (مأزق مواجهة الإشاعات المضدة) عمد إلى محاربتها بحيلة ساذجة مكشوفة. فلقد كان يطلق إشاعة ما وبعد فترة قصيرة من انتشارها يبرز، في عملية تبدو عادية ولا علاقة لها بحرب الإشاعات، دليلا على كذبها. من ذلك أنه راجت إشاعة في سنة ما من سنوات التسعينيات بأن ممثلة أردنية معروفة في الشارع الليبي اكتشف الأمن الأردني أنها كانت تتجسس لحساب إسرائيل، وبعد فترة بسيطة من رواج الإشاعة أجرى التلفزيون الليبي مقابلة عادية مع هذه الممثلة لا توجد فيها أية إشارة إلى الموضوع.

لكنَّ هذه الحيلة، وأشباهها، لم تفلح في صد سيل الإشاعات المضادة المتنامي، الأمر الذي مثل هاجسا ممضا لرأس النظام فتم، أواسط التسعينيات، سن قانون يتضمن عقوبات عالية على النكتة والإشاعة والأخبار المغرضة.

كان ذلك قبل ظهور الانترنت واتساع التعامل معه وتكون"الجيوش الألكترونية" التي تعتبر أذرعا "إشاعية" للجماعات المسلحة والقوى السياسية "تتشائع" على ساحة العالم الافتراضي في معارك عشواء وشعواء.