Atwasat

ترحال: «ليلى والذئب» في الذكرى الرابعة لرحيل ليلى

محمد الجويلي الإثنين 19 يناير 2015, 07:38 مساء
محمد الجويلي

عندما يتحدّث الفرنسيون عن قصّة واقعيّة لشخص رجلاً كان أو امرأة ينحدر من عائلة فقيرة معدمة، أو ينشأ يتيمًا مضطهدًا منبوذًا متروكًا لحاله، عادة ما يكون يتيم الأمّ، ما يعني أنّ كلّ الظروف تهيّئه إلى أن يُدمّر لا أن يعمِّر وأن يفشل فشلاً ذريعًا ولكنّه، على العكس من ذلك، يكافح ويستميت في نحت كيانه وتدارك ما فاته في طفولته ويناضل من أجل حياة أفضل وينجح نجاحًا باهرًا بأن يصير فنانًا أو عالمًا أو رياضيًّا أو ذائع الصيت أو صاحب ثروة وجاه أو، بكلّ بساطة، يتربّع على عرش السلطة فيصير رئيسًا لدولة أو ملكًا أو سياسيًا مشهورًا محبوبًا من شعبه، عندما يتحدّثون عن ذلك يطلقون على قصّة نجاحه تسمية خرافة أو حكاية خياليّة (un conte de fée)، كناية عن حكايات العجائب والغرائب التي تكون شخصياتها المساعدة للبطل كائناتٍ من نسج الخيال مثل السحرة والعفاريت وحتّى الغيلان التي قد ترأف ببطل الخرافة أكثر ممّا يرأف به بنو الإنسان بمن في ذلك والده وزوجته وإخوته أحيانا ومن اعتقد أنّهم يحقّقون له الأمان.

الحكايات الخرافيّة التي تتحدّث عن هذه البطولة في تراثنا الشعبي كثيرة وفي التراث العالمي كذلك، ومادمنا نتحدّث عن الفرنسيين فأوّل ما يتبادر إلى أذهاننا حكاية لشارل بيرو (Charles Perrault) ذاع صيتها في العالم ونقلت إلى العربيّة لأطفالنا من المحيط إلى الخليج في ترجمات مختلفة حتى نكاد نقول أنْ لا أحد من أطفال العرب لا يعرفها وهي (Le petit chaperon rouge) التي نقلت إلى العربيّة في ترجمة حرفيّة «ذات الطاقيّة الحمراء» وفي ترجمة ثانية «ليلى والذئب» لعلّها أكثر ذكاء من الأولى لاستفادتها من الشحنة الرمزيّة، الشاعريّة لاسم اقترن عندنا، العربَ، بالحبّ وجنونه ورومانسيّته كما نقلت لنا أخباره من خلال سيرة الشاعر الذي عرف «بمجنون ليلى» حتّى صار كلّ واحد منا، والحديث دائما عن العرب، «يغنّي على ليلاه» المثل الذي يضرب على الفرديّة والتشتّت والتشرذم وما إلى ذلك!

من فتاة فقيرة معدمة إلى سيّدة القصر، لم تكن ليلى «كاثوليكيّة» في رائحة القديسة، كما يقول الفرنسيون، فصعودها من القاع إلى القمّة لم تقتف فيه خطوات بطلات الحكايات الخرافية

أعود الآن إلى ليلى، الاسم الرمز قبل كل شيء الذي فتن أستاذ الأدب العربي الفرنسي الكبير آندري ميكال وجعله يترجم إلى الفرنسيّة باقة من أشعار مجنونه والمتيّم بها (le fou de Leila). كلّ امرأة معشوقة عند العرب هي ليلى وكلّ رجل عاشق ولهان بها هو مجنونها، ما يجعل هذا الاسم اسمًا أسطوريًّا رومانسيًّا يلتبس باللّيل وسحره وغموضه وفتنته: اللّيل يا ليلى يعاتبني ويقول لي سلّم على ليلى– وقيل لي ليلى بالعراق مريضة فقلت يا ليتني كنت الطبيب المداويا، وهلمّ جرّا.

أمّا «ليلى» والكائن التاريخي الذي التبس بنا لمدّة عشرين سنة في تونس والذي أحببنا أو كرهنا قد وسم حياتنا خلال هذه المدّة وقد يسمُها لفترة أخرى طويلة ليس في حاجة في الحقيقة إلى تعريف للتونسيين والعرب أجمعين.

عندما ننظر في قصّة ليلى الطرابلسي في ظاهرها وعلى الأقلّ قبل أن نصل إلى قفلتها، أي قبل سقوطها عشيّة 14 يناير2011، ودون الخوض بالطبع في مضامينها وتفاصيلها ملتزمين منهجا شكلانيًا صرفًا بلوره كما نعرف الباحث الروسي فلا ديمير بروب في دراسته الشهيرة «مورفولوجيا الحكاية» يرفض الخوض في المعاني والدلالات لا نملك إلاّ أن نصف قصّتها على طريقة الفرنسيين بأنّها حكاية خرافيّة. مثلها مثل «ساندريلا»، فتاة الرماد وغيرها من بطلات الحكايات الخرافيّة العالميّة، نشأت في عائلة فقيرة الحال، معدمة ونسبها الطرابلسي يوحي بأنّ ثمّة شيئا ما في أصول العائلة ما يدلّ على أنّ تاريخ تشكّل هويتها في تونس مرتبط بمحنة، بهجرة قسرية من ليبيا فرارًا من خطر محدق قد يكون غزو الطليان للبلاد واستعمارها الفاشي الذي بدأ سنة 1911 أو قبل ذلك أو بعده نتيجة إكراه ما لا نعرفه.

لم يغيّر القصر من بنت الشعب شيئًا بل على العكس من ذلك لم يزدها إلاّ ارتباطًا وثيقًا بأبناء جلدتها

وعلى خلاف التونسيين من أصل ليبي الذين يحملون ألقاب عائلات معروفة في ليبيا إلى اليوم كبورقيبة في مصراتة والعلاقي في صبراطة والصويعي نسبة إلى قبيلة الصيعان والزواري نسبة إلى مدينة زوارة والغرياني نسبة إلى مدينة غريان والترهوني نسبة إلى ترهونة، فإن نسبة الطرابلسي التى هي مرادف لليبي في الاستعمال التونسي القديم من قبيل إطلاق الجزء على الكلّ بوصفها هوية موغلة في العمومية تدل على أنّ تشكّل هوية هذه العائلة في تونس لم يكن دون مصاعب ومحن.

لكل هذه الأسباب تنطلق ليلى حتى قبل ميلادها كما بطلات الحكايات الخرافية بأوفر الحظوظ لمنافستهن البطولة، فهي تنتمي إلى عائلة كثيرة العدد من عشرة أبناء وبنات دون حساب ليلى بالطبع.

تكبر ليلى شيئًا فشيئًا في حي فقير وتذهب إلى المدرسة وتنفتح عيناها على الحياة بصعوباتها ومشاكلها، مثلها مثل بنات وأبناء الشعب الكريم تذوق مرارة الحرمان والتهميش والاحتقار فتنقطع عن الدراسة مبكّرًا لأنّ الظّروف لم تكن مهيئة لها لمواصلتها وكما العديد من بنات تونس الحاضرة الفقيرات اللواتي ينقطعن عن الدراسة مبكرًا التحقت ليلى بمدرسة لتعلّم الحلاقة النسائيّة -والعهدة على الرواة- وهي مهنة من الطبع يترفع عليها بنات تونس البلديات والبورجوازيات وإلى وقت بعيد كان التونسيون ينظرون إليها بعين الريبة لما يحف بها من غموض وشكوك.

تدخل ليلى غمار الحياة وتلقي بنفسها في اليمّ تصارع الأمواج العاتية متسلحة مثلها مثل بطلات الحكايات الخرافيّة بجمالها وذكائها، وهنا لابدّ من البقاء في الشكل وعدم الانزلاق إلى المعاني! - تقارع الغيلان والعفاريت وتعتمد على السحرة مثلها مثل ساندريلا، خطوة إلى الأمام وخطوة إلى الوراء.

كانت ليلى امرأة متواضعة تحبّ الفقراء وتنبذ المال وتحتقره وتقول لإخوتها «ابقوا بسطاء كما كنتم. اغنموا محبّة الناس فهي أغلى من الذهب والفضّة»

بعد الحلاقة هاهي سكرتيرة وموظفة صغيرة في وكالة أسفار، تارة تنجح في الحب، وطورًا تفشل، تتزوج وتطلق، بين صعود وهبوط حتى يقوى عودها وتقف على أقدامها وتمشي الهوينى وتتسلق الدرج إلى أن تصل إلى علية القوم، لا يقف طموحها هنا.

فكما بطلات الحكايات الشعبيّة لا ترضى بغير الفوز بالملك ذاته والاستيلاء على قلبه. هكذا تدخل القصر سيدته الأولى لتنقلب حياتها من الضدّ إلى الضدّ، من الفقر المدقع إلى الثراء الفاحش، من فتاة الرماد إلى فتاة الذهب. بعد أن كانت خادمة لعلية القوم في تونس العاصمة صارت سيدتهم ولن يغفروا لها ذلك. بالأمس كانت تأكل من فتات موائد البورجوازيّة، فصار بعضهم يأكل من فتات مائدتها. الفتاة التي لفظتها المدرسة الابتدائية أو الاعدادية وألقت بها في مدرسة الحلاقة تؤسّس، بالمال العام طبعًا، أفضل مدرسة للتعليم الأوّلي في قرطاج وتعيّن بنفسها على ما قيل وزير التعليم العالي والبحث العلمي، دكتور دولة في القانون وتمنحه شرف الإشراف عليها في رسالتها لتصير دكتورة مثله نكاية في التونسيين اللّذين يصرّون على ربطها بالحلاقة.

فهل ثمة نجاح يضاهي هذا النجاح وهل بإمكان عاقل مختص في الخرافات، بشرط أن يكون شكلانيًا على طريقة الروسي بروب، يمكن أن يجرد ليلى من بطولتها باعتبارها نموذجا لبطلة الحكاية الخرافية «ليلي بنت الطرابلسي» مثلها مثل ساندريلا و«عيشة بنت الحوات».

لا ينبغي أن ننسى أنّ الشكلانية تفترض أن يكون تحليل الحكاية مورفولوجيا شاملاً يأخذ بعين الاعتبار الخاتمة. خاتمة الحكاية الخرافيّة، على عكس الأسطورة، عادة ما تكون سعيدة. الأسطورة نهايتها دائما مأساويّة. ليلى الطرابلسي إلى حدود منتصف نهار 14 يناير 2011 وقبل أن تتحوّل إلى المطار قد استجابت شكليًا وبنيويًا لمقوّمات الحكاية الخرافيّة، ولكن بمجرّد خروجها من القصر واستقلالها الطائرة بدأت تسير شيئا فشيئا نحو المأساة: فِطَامِ السلطة والغربة القسريّة والملاحقة القضائيّة وندامة أبديّة ولعنة تونسيّة ودوليّة ونشر غسيلها على القنوات التليفزيونية: مأساة حقيقيّة.

كان التونسيون يعرفون أنّ ليلى لا تلوم في الحقّ لومة لائم، فيقصدونها لرفع مظلمة عنهم ولتخفيف معاناة لحقتهم ولمعرفتهم كذلك بمكانتها عند زوجها الذي كان يحبّها حبًّا جمًّا

من البديهي أن يكون للشكلانيّة عيوبها فهي تهمل المعنى وتعادي التأويل، من فتاة فقيرة معدمة إلى سيّدة القصر، لم تكن ليلى «كاثوليكيّة» في رائحة القديسة، كما يقول الفرنسيون، فصعودها من القاع إلى القمّة لم تقتف فيه خطوات بطلات الحكايات الخرافية. وإن كانت جميلة وذكيّة مثلهن فهي لم تسلك مسلكهن وفقا للمعايير الأخلاقيّة التي تعمل الثقافة الشعبية على بثّها من جيل إلى جيل.

كان يا مكان في قديم الزمان فتاة فقيرة اسمها ليلى بنت رجل بسيط كادح عُرف باستقامته ونزاهته وشهامته وأمّ فاضلة وإخوتها عشرة عاشت الحرمان والبؤس وعانت من شظف العيش والمهانة ولكنها كانت جميلة وذكيّة وصاحبة عزم من حديد.

بعد أن انقطعت عن دراستها قرّرت أن تُعيل أسرتها وتساعد إخوتها على العيش الكريم. كانت لا تكلّ ولا تملّ وبكدّ عرقها وجبينها وفقت بالنهوض بعائلتها تكابد الحياة بحلوها ومرّها إلى أن جاء المكتوب و«المكتوب على الجبين لازم تشوفو العين». وتتزوّج السلطان وتزفّ إلى القصر.

لم يغيّر القصر من بنت الشعب شيئًا بل على العكس من ذلك لم يزدها إلاّ ارتباطًا وثيقًا بأبناء جلدتها. كانت تمقت القصر ولا تمكث فيه طويلاً وتفضّل عليه بيتا متواضعًا في الحيّ الذي ولدت فيه وترعرعت وكان أكثر ما يزعجها هو الحرس الرابض أمامه لحراستها لكونها تريد أن تخرج كما كانت من قبل في سيارة صغيرة تقودها بمفردها لتشتري من الأسواق الشعبية ما يلزمها.

كانت ليلى امرأة متواضعة تحبّ الفقراء وتنبذ المال وتحتقره وتقول لإخوتها «ابقوا بسطاء كما كنتم. اغنموا محبّة الناس فهي أغلى من الذهب والفضّة». رغم كلّ ما قيل عن ماضيها أيّام شبابها وقبل زواجها فإنّ التونسيين قد طووا هذه الصفحة إلى الأبد ويشفعون لها محبّتها للشعب ووفاءها لجذورها وتواضعها وعدلها. كانت تخرج في سيارتها الصغيرة خفية خشية أن يحرجها الناس بتعبيرهم عن محبّتهم لها وفي يوم من الأيام وبمجرّد أن لمحها الناس في الطريق حتى وقف البعض وارتمى أمامها يقبّل يدها في حين عمد البعض الآخر إلى نثر الورود عليها.

كان التونسيون يعرفون أنّ ليلى لا تلوم في الحقّ لومة لائم، فيقصدونها لرفع مظلمة عنهم ولتخفيف معاناة لحقتهم ولمعرفتهم كذلك بمكانتها عند زوجها الذي كان يحبّها حبًّا جمًّا كثيرًا ما كانوا يلفتون انتباهها إلى انحراف يحدث في القصر، فتغضب وتزمجر وتعلم زوجها أنّها تحبّه ولكنّها تحبّ الشعب التونسي أكثر منه وتدعوه أن يعاملها بالمثل، أن يحبّها ولكن أن يحبّ التونسيين أكثر منها.

مرّة قصدها وزير معروف بنزاهته ونظافة يده حيكت له دسيسة لأنّه اعترض على التفريط في ملك من أملاك الدولة لشخص من المقرّبين لزوجها، فلُفِّقت له قضيّة تعاطي المخدّرات تمهيدا لفصله والإلقاء به في السجن. ثارت ثائرتها واستقلّت سيارتها إلى قرطاج وأعلمته بتفاصيل حكاية الوزير ولما رأت منه ممانعة هدّدته بالطلاق وقالت له «إنّ الحفاظ على ملك الشعب» أهمّ بالنسبة إليها من أيّ شيء آخر وحذّرته من أنّ مسافة صغيرة تفصل القصر عن القبر وأنّ قصر الإنسان الحقيقي هو قبره.

ومرّت الأيام وخرج زوج ليلى من قصر قرطاج، ولكنّ ليلى ظلّت كما هي معبودة الشعب والجماهير بل ازداد حبّ الناس لها ولعائلتها وأصهارها «وين انحطّك يا طبق الورد» إلى أن داهمها هادم اللذّات ووافاها الأجل المحتوم. قِيل أنّ يوم وفاتها خرج التونسيون بالملايين ينعونها ويبكونها شيبا وشبابًا. وبعد قرون الآن من وفاتها ليست ثمّة في تونس اليوم مدينة أو قرية ليس فيها شارع أو مدرسة أو حيّ لا يحمل اسمها وليس ثمّة عائلة لا تسمّى ابنتها البكر ليلى. قبرها الذي عمل عَمَلَةٌ من أبناء الشعب على أن يشيّدوا له قبّة تظلّله صار الآن مزارًا لكلّ التونسيين «وهابة هابة وإن شاء اللّه العام يجينا صابة».