Atwasat

ليبيا على شفا انهيار اقتصادي ومأساة إنسانية

فضيل الأمين الإثنين 12 يناير 2015, 10:54 صباحا
فضيل الأمين

مع استمرار وتوسع رقعة الحرب الأهلية في ليبيا وانتقالها نحو الهلال النفطي وازدياد المعاناة الإنسانية والاقتصادية للمواطن الليبي، تبدو ملامح الانهيار الاقتصادي والمأساة الإنسانية في البروز يوماً بعد يوم.
ولن يكون منحنى الانهيار المطرد أو "التطور المنحدر" نحو الهاوية منحنىً تقليديًا تدريجيًا بل سيكون أقرب إلى الزاوية الحادة. ذلك أن تصاعد الأحداث وانهيار الخدمات الأساسية للمواطن وغياب الاحتياجات الأساسية له من ماء ودواء وكهرباء وغاز وطعام وأمان وقدرة على الحركة لقضاء مصالحه والحصول على احتياجاته، يضاف إلى ذلك التهديد الإرهابي المتزايد والعنف والمعاناة اللاإنسانية للنازحين الليبيين في الداخل والخارج، كل ذلك يجعل النافذة أضيق مما يتخيلها أكثرنا واقعية.

ففي خلال فترة لن تزيد على 6 أشهر ستشهد ليبيا، ما لم يتم تدراك الأمر عاجلاً، انهيارًا اقتصاديًا رهيبًا ومأساة إنسانية مؤلمة لم تشهدها البلاد من قبل.
ويأتي هذا نتيجة لعدة عوامل أكبرها وأهمها هو الحرب الأهلية. فالحرب الأهلية، خلافًا لما يعتقده البعض من قراء التاريخ الهواة، هي أسوأ أنواع الحروب لأنها لا تقوم بتدمير الجيوش والميليشيات وقتل الجنود والمرتزقة والانتصار في ساحات الوغى، بل تقوم بتدمير البنية التحتية والأساسية للبلاد وتقضي على أسس الاقتصاد وتخلق المآسي الإنسانية وتصنع الشقاق وتوّلد العداوات وتدمر الاقتصاد وتحرق الثروات.
إنها مثل الحريق الهائل داخل منزل مغلق لا يستطيع أهله الفرار منه ولا يستطيعون إنقاذ ما فيه. فيحترق المنزل بما فيه ومن فيه ومن يخرج من الأتون يخرج عاريًا حافيًا معدمًا لاجئًا مقهورًا وغاضبًا وكثيرًا ما يتحول غضبه إلى عنف متمكن وطويل الأمد في الوقت نفسه.

الحروب الأهلية لها آثار سياسية وعسكرية وإنسانية وسيكولوجية واجتماعية واقتصادية طويلة المدى. لها ندباتها وجروحها الغائرة وتردداتها في جنبات الحاضر والمستقبل.

فمع استمرار العنف والانقسام السياسي ونضوب المداخيل المالية نتيجة الحرب والانخفاض العالمي في أسعار النفط إلى أقل من النصف، من 120 دولارًا إلى 42 دولارًا في دولة تعتمد في أكثر من 92% من دخلها على بيع النفط، لا يمكننا إلا تخيل المشهد الاقتصادي الصعب الذي يرافقه مشهد إنساني أصعب. وفي حين تواجه الدول المصدرة النفط عمومًا انخفاضًا يزيد على النصف في مداخليها، تواجه ليبيا التي تعيش واقع حرب أهلية بالإضافة إلى انخفاض الأسعار عدم قدرة على الاحتفاظ بحد معقول من الإنتاج اليومي حيث انخفض معدل الإنتاج من 800 ألف برميل يوميًا إلى حوالي 250 ألف برميل كحد أعلى متوقع في هذه الظروف.

معدل الإنتاج اليومي هذا لا يكاد يكفي للاستهلاك المحلي ومن ثم فإن الدخل المتوقع مع التقدير اليومي للنفط الليبي هو في الحقيقة (صفر). وهذا يعني أن استمرار صرف المرتبات والدعم العام للسلع وبقية مصروفات الخدمات العامة يأتي من السيولة الليبية الحالية لدى المصرف المركزي الليبي أو من الحسابات المصرفية للوزارات والمؤسسات والهيئات، أي ما تبقى في هذه الحسابات المصرفية. وكلنا يعلم أن مصرف ليبيا المركزي لم يقم بصرف أو تحويل ميزانيات العام 2014 للدولة ومؤسساتها ووزاراتها بسبب اندلاع الحرب الأهلية عقب الهجوم على العاصمة.

إن الاستنزاف المستمر والحاد للسيولة الليبية في البند الأول، وهو بند المرتبات والذي يشمل صرف مرتبات الميليشيات المتقاتلة وتوابعها وكذلك بند دعم السلع التموينية، والتي تشمل الوقود الذي يستنزف جزءًا كبيرًا منه في التهريب، كل ذلك يشكل نذر خطر على مدى اعتلال الاقتصاد الليبي الذي يعاني من مشاكل مزمنة تعود جذورها إلى سنوات ما قبل ثورة فبراير وازدادت حدتها خلال وبعد انتهاء الاقتتال الأول وارتفعت حدته خلال حصار الموانئ النفطية حيث خسرت ليبيا المليارات نتيجة لعدم قدرتها على التصدير عندما كان سعر النفط في السوق العالمية أكثر من 100 دولار للبرميل لينتهي لنا الحال في الاقتتال الجاري.

نزيف السيولة وازدياد حدة الفساد والتهريب دفع المصرف المركزي، الذي لا تزال إدارته مجال صراع، إلى وضع قيود على التحويلات والعملة الصعبة مما يعيق عمليات الاستيراد للمواد الأساسية والسلع الغذائية والاستهلاكية في دولة تستورد أكثر من 90% من استهلاكها من السلع التموينية والغذائية. الصعوبة المتزايدة في القدرة الشرائية والقدرة على الاستيراد أوصلت علبة حليب الأطفال مثلاً إلى أكثر من 15 دينارًا ليبيًا الأمر الذي يشكل ضغطًا كبيرًا على الأسر الليبية. في حين وصلت أنبوبة الغاز التي كانت لا يزيد سعرها على 3 دنانير إلى 50 دينارًا في بعض المناطق وأكثر من 150 دينارًا في مناطق أخرى.

ارتفاع أسعار المواد التموينية والمواد الأساسية وندرتها في السوق بسبب الوضع الاقتصادي الناتج من الحرب الأهلية وواقع السوق سيؤدي دون شك إلى انهيار اقتصادي للبلاد.

فالأرقام لا تكذب ولا تجامل.

وإذا أضفنا إلى ذلك النافذة التي تضيق باستمرار فيما يخص قدرة المصرف المركزي على صرف البند الأول وهو بند المرتبات فإن الأرقام تشير إلى نافذة واقعية لا تزيد على 6 إلى 8 أشهر من بند المرتبات يمكن أن يصرف كما هو في حالته الآن. وهذا يعني أن المواطن الليبي الذي يتقاضى مرتبه من الدولة ومؤسساتها سيجد نفسه يتقاضى الريح ويقبض عليها قبل نهاية عام 2015.

معدل الإنتاج اليومي لا يكاد يكفي للاستهلاك المحلي ومن ثم فإن الدخل المتوقع مع التقدير اليومي للنفط الليبي هو في الحقيقة (صفر)

ارتفاع الأسعار نتيجة لعدم القدرة على الاستيراد لعدم القدرة على التحويل ووجود السيولة، سيصاحبه ضعف مستمر في القدرة الشرائية لدى المواطن مع تدني القدرة على دفع المرتبات.

النتيجة انهيار اقتصادي قد يتحول إلى ثورة الجياع في بلد نفطي. ومن يستبعد هذا السيناريو ليس عليه سوى الاطلاع على الانهيار الاقتصادي المريع الذي تشهده دولة نفطية أخرى تسمى فنزويلا.

الوضع الاقتصادي الليبي السيئ يصاحبه وينتج عنه وضع إنساني أكثر سوءًا.

فالحرب الأهلية الليبية ألقت بثقلها المأساوي على المشهد الإنساني خاصة فيما يخص الخدمات والاحتياجات الأساسية. فهناك نقص، وفي بعض المناطق غياب، هائل للخدمات الأساسية الصحية والطبية منها والخدمات الأساسية أيضاً. مثل خدمات السفر والتنقل وخدمات توفير المواد الأساسية مثل غاز الطبخ والكيروسين للتدفئة، في الوقت نفسه تزداد وتيرة انقطاع الكهرباء لساعات طويلة وفي بعض المناطق أيام في المدن الغربية والجنوبية والشرقية على حد سواء. وهذا له أثره على القطاع الصحي وقطاعات الخدمات حيث فقدت خدمات الموبايل لعدة أيام ووصلت شفرة شركة ليبيانا التى تباع بخمسة دنانير إلى 120 دينارا على سبيل المثال، وهو نموذج فاضح يقاربمثال أنبوبة الغاز ويدل على مدى الاستغلال والفساد وتغول السوق السوداء عند انهيار الاقتصاد.

ولا ننسى أيضًا النقص الكبير في الأدوية والمعدات الطبية التي تعاني منها المستشفيات والصيدليات الأمر الذي ستزداد وتيرته مما سيؤدي إلى كارثة صحية في وقت تتفشى فيه أوبئة وأمراض مثل الإيبولا على حدودنا وتعج مناطقنا بالمهاجرين غير الشرعيين القادمين من مناطق هذه الأوبئة. وستقل قدرة المواطن الليبي على الذهاب إلى دول الجوار للعلاج مع استمرار الشح في السيولة والإمكانات المادية وتقلص القدرة على السفر بسبب الحرب والمشاكل الحدودية.

الحرب الأهلية عادة ما تسبب نزوحًا سكانيًا كبيرًا من مناطق الحرب والصراع وخلق للاجئين في داخل البلاد. وكلما تزداد الحرب الأهلية قذارة كما هو الحال في ليبيا لتشمل التصفية على الهوية والتدمير والتسفير القسري وحرق البيوت، تزداد حدة النزوح كما يزداد عدد اللاجئين الأمر الذي له آثار اجتماعية واقتصادية ونفسية وسياسية وعسكرية كبيرة. فتنقطع حركة التعليم في المدارس ويزداد عدد الطلبة خارج نطاق المؤسسات التعليمية وتضيع منهم سنوات دراسية مهمة مما يزيد من حدة الجريمة التقليدية والجرائم المنظمة والعنف المبني على الحقد والانتقام والكراهية ويدخل هؤلاء الشباب بوابة العنف والجريمة التي قد تصل بهم إلى قاع الإرهاب حيث يصبحون لقمة سائغة للتجنيد الإرهابي والتأثيرات المتطرفة والمنحرفة، ناهيك عن استخدام المخدرات والمتاجرة فيها.

ومن الناحية الاقتصادية يسبب نزوح اللاجئين إلى مناطق ومدن وقرى أخرى ارتفاعا في أسعار العقارات والمساكن وطلب أكبر على السلع التموينية والخدمات الأساسية، الأمر الذي يرهق كاهل سكان تلك المدن والقرى ويخلق حالة من النفرة والاستياء. في الوقت نفسه يؤدي النزوح إلى خلخلة كبيرة في النسيج الاجتماعي على مستويات كثيرة.

ولا ننسى عدم قدرة الدولة على الاستجابة للحاجات الأساسية للنازحين نتيجة لانهيار المؤسسات وضعف الخدمات وعدم وجود السيولة المالية، الأمر الذي من شأنه أن يزيد من معاناتهم في بلادهم. كما سيفقد النازحون أموالهم ووظائفهم ومصادر دخلهم، الأمر الذي يجعلهم عالة على من يساعدهم وعلى الدولة التي لن تستطيع مساعدتهم، مما يزيد من حنقهم وغضبهم عليها وتنهار ثقتهم بها وتستمر الدوامة عند ذلك.

الانهيار الاقتصادي وانهيار المؤسسات يخلق الفوضى والفراغ، الأمران اللذان يعتبران العاملين المثاليين لدخول الجريمة المنظمة والإرهاب الدولي. ونحن نعيش حاليا كليهما في ليبيا. فليبيا اليوم مرتع للإرهاب والمنظمات الإرهابية الدولية ومسرح لعمليات الجريمة المنظمة التي تشمل الاتجار بالبشر.

إن الانهيار الاقتصادي والمأساة الإنسانية ستجعل من ليبيا دولة فاشلة بامتياز مما يحولها إلى معقل للجريمة والإرهاب في شمال أفريقيا وملجأ لهما وكعبتهما المفضلة. ونحن نشاهد ونعاني من بوادر ذلك يوميًا.

وفي هذه الظروف الصعبة لا يزال أطراف الصراع يعتقدون واهمين أن ليبيا ستكون بخير مع استمرار هذا الانهيار المتسارع وفي ظل عدم إدراكهم أن هناك فرقًا بين الحقيقة والخيال. بين الواقع التمنيات.

إن ليبيا ليست دولة غنية كما يعتقد الكثير. ليبيا دولة متوسطة الغنى بسبب النفط وهذا الغنى ليس أبديا ولا ينبني على قدرات اقتصادية حقيقية ومستدامة.

لقد شاهدنا في السنوات القليلة الماضية كيف تتبخر السيولة المالية في أجواء الصرف الحاد والمجنون وغير المنضبط. فتبخرت المليارات وارتفعت نسبة المرتبات أكثر من 10 مليارات دينار سنويًا واختفت مبالغ طائلة في مشاريع وهمية وسرقات خرافية.

فليبيا التي كانت دولة متوسطة الغنى هي اليوم دولة أقرب إلى الفقر منها إلى الغنى وستصبح مع استمرار هذا التردي دولة فقيرة الواقع والحال والمستوى.

إن الذين يسوِّقون للحرب والعنف والصراع إما أنهم لا يدركون حقيقة ما أشرنا إليه في هذا المقال أو أنهم يعلمون جيدًا نتائج ما تصنع أيديهم. والأمر في الحالتين مثل قول المثل "إن كنت لا تدري فتلك مصيبة وإن كنت تدري فالمصيبة أعظم".

إننا اليوم في ليبيا على أعتاب كارثة إنسانية وانهيار اقتصادي مريع. فليبيا التي نعرفها، ناهيك عن ليبيا التي عرفناها، لن تكون إذا استمرت مؤشرات الهبوط ومؤشرات الانهيار.

الأمر يتجاوز من ينتصر ومن ينهزم ويتجاوز من يكسب ومن يخسر. إننا جميعنا سنخسر وطننا ونخسر شعبنا في هذه الحرب الأهلية القذرة قذارة تفكير من "لا تقلقوا سنشترى لكم معدات جديدة".

آلهة الحرب لا يعرفون الثمن الحقيقي للحروب عامة وهم أجهل الناس بآثار الحروب الأهلية القذرة. والحرب الأهلية الليبية من أقذر ما درست من الحروب الأهلية.

لا تزال هناك فسحة، ولكنها تصغر كل يوم، بل كل ساعة، ولا تزال هناك نافذة ولكنها تضيق كل يوم بل كل دقيقة.

إن الإدراك الحقيقي والواقعي للشأن الليبي إنسانيًا واقتصاديًا والعمل على اتخاذ الإجراءات والقرارات الشجاعة والمسؤولة من أجل وقف هذا الانحدار الخطير هو أقل ما يمكن أن نتوقعه ونطالب به من يتصدون للمشهد الليبي ويطرحون أنفسهم كقادة له وقيِّمين على أمره.

ومن هنا تكتسب التحركات الأممية للدفع بحوار ليبي مسؤول يُخرج البلاد من أزمتها ومأساتها، أهمية كبرى ولا يجب أن تكون مجالاً للتندر والسخرية والمساومات الرخيصة. فبلادنا وشعبنا وحاضرنا ومستقبلنا على المحك.

إن الغرض من هذا المقال ليس التخويف أو التهويل، بل لفت الانتباه ووضع النقاط على الحروف والتحذير من الاستمرار في المماحكات والمزايدات السياسية والعسكرية والتلاعبات التكتيكية على حساب استراتيجية إنقاذ الوطن وإعادة بنائه.