Atwasat

(وسط) يزداد ألقاً

محمد عقيلة العمامي الإثنين 28 نوفمبر 2022, 03:10 مساء
محمد عقيلة العمامي


يبدو لرواد مطعم (البيرقولا) في هيلتون روما، المقام على ربوة تشرف على المدينة، وكأنهم يتناولون عشاءهم في شرفة تعلو حديقة من الأنوار الملونة. قائمة الطعام تحتوي على أطباق عجيبة لم أسمع بها في حياتي قبل زيارتي لهذا المطعم في منتصف سبعينيات القرن الماضي: (ريزوتو بالشمبانيا)، (سباقيتي بالترفاس)، (شرائح كبد البط المقلية بصلصة الريحان) وعدد من أطباق أخرى شهية!

في الصين مطاعم تقدم أطباقاً غريبة، لعل أغربها (شريحة ذيل التمساح) المقلية في عدد من الزيوت لا يستثنى منها سوى (زيت العربات!). في مطاعم المغرب أطباق اللحوم بالبرقوق، في تونس العلوش، في مصر الكباب وصحن البصارة، والملوخية بـ(الأنارب). في (الكاتشامورا) مطاعم أسماك ميناء (بيريوس)، وأطباق صغار الأخطبوط المشوية الفائحة في ميناء صيادي (خالكيدا)! مطابخ العالم كلها تتفنن كيف تسحبك من أنفك نحو موائدها، من هذه المطابخ وغيرها، استمتعت بأطباق عجيبة، والعجب تخلق عندي منذ أن حاولت معرفة ما يميز طبق الفاصوليا بالكرشة الذي كان يقدمه مطعم (بوعشرين) في بنغازي، إلى أن ارتفعت مع لقمتي قطعة من القرع العسلي، عندما أكتشف سر ذلك الطبق!

لا أخفي عليكم أنني أعشق مثل هذه المطاعم، لعله بسبب أطباق زمن العوز المتمثلة في (المقطع والحساء والدشيشة) بكسر الخبز المتبقية في قفة (القطامة)، وهي لمن لا يعرف فضلات طحن الحبوب بالرحاء اليدوية، وكسر الخبز الجافة المتبقية من أية وجبة! وأيضاً (الكسكسو بالخضرة)، وإن حدث يوم جمعة وكان بـ(كريعات حولي) أو في ليلة (كبيرة) أعني موسماً، غالباً (ديني)، قد يكون برأس خروف فتكون الوجبة مهرجاناً حقيقياً. تلك كانت أطباق طفولتي وأطباق أغلب جيلي في بنغازي مطلع الخمسينيات، بل حتى نهايتها!
قد يكون هذا هو سبب عشقي للمطابخ وبحثي عنها بمجرد وصولي لأية مدينة ملتهبة الإضاءة، كباريس التي وصلتها ذات ليلة ولأول مرة، انطلقت نحو مطعم مكسيم! الذي رفيق رحلتي يحدثني عنه منذ أن طرنا من مطار بنينا. وطلبت وصديقي في تلك الرحلة (ستكوزا) ولم يعرف أي منا كيف نأكلها؟ إلى أن لاحظ النادل حيرتنا فقشرها لنا!

عشقي للمطابخ، هو السبب هو الذي جعلني أؤسس مطعمين: (الرياس) للحوت، وأيضاً للحرايمي في رصيف الصيادين في بنغازي، والثاني أسميته الديوان لأكلات أخرى ابتكرها طباخو الديوان منها (الزنقر) الذي لا أعرفه تحديداً حتى الآن!
ولكن ما كان يخطر على بالي أن يأخذني هذا العشق إلى مطبخ لا علاقة له بالأكل، وإنما بالكلمات المضيئة، والنزقة أيضاً؛ إن عشقي لها أخذني إلى مطبخ «بوابة الوسط» المفتوح طوال الليل والنهار الذي تصادف أن تُنقل مكاتبها في عمارة أمام بيتي مباشرة! وما كان يخطر على بالي أنه حين يتعذر عليّ النوم، أذهب إليه، لأجد رفاقي يعملون ويعدون ثمار اليوم التالي.

المصادفة أنني تأخرت في تسليم مقالي الأول للبوابة، وهو مقال (يا حويج) فصدر في الأسبوع يوم 2/2/2013 ومن وقتها لم أتخلف مرة واحدة عن موعده يوم الإثنين من كل أسبوع. أما العدد التجريبي الأول لجريدة «الوسط» الورقية فكان في مثل اليوم من شهر نوفمبر سنة 2015 ومنه لم تتأخر الجريدة عن الصدور في موعدها. هذا العدد بمناسبة صدورها أول مرة منذ سبع سنوات.

لم يقفل مطبخ «الوسط»، لا يوم ولا ليلة، قبيل أيام من مطلع شهر فبراير 2013، وأغلب طباخي الوسط لم يتغيروا، وبذلك لم يَحدْ أحدُ عن سياسة البوابة، وأسلوبها ودقة أخبارها، وتنوع مواضيعها.

تشرفت بعلاقات صداقة متينة مع أساتذة منهم من لا أذكر أنني رأيته إلاّ متبسماً، ومنهم الذي كثيراً ما رأيته في غيبوبة تأمل، أو في استغراق تام! وأحياناً نائماً، من فجر الليلة السابقة! رحلت عنا وجوه طيبة ما زال الرفاق يترحمون عليهم، ومنهم من انتقل إلى مطبخ آخر ولكنه لم يغب عنا بسؤاله ومشاركتنا مناسباتنا.
وراء هذا العمل المنظم والمنتظم في صدوره ومواضيعه وتصاميمه ودقتها، رجال آمنوا بهذا العمل وأخلصوا له، مقتنعين تماماً أن جزاء الإحسان إحسان مثله، اهتمت الإدارة بهم، فأخلصوا لقوانينها.

انتماء «الوسط» لم يكن إلاّ لوسط الوطن النابض قلبه، بضرورة قيامه.. قيام دولة ليبيا، وهذا وحق الله، أحد أسباب فخري وانتمائي الكامل لها. ولأنني لست من رجال إدارتها، فأنا مجرد كاتب من كتّابها، فحق عليّ أن أكتب بهذه المناسبة كلمة شكر في حق من عاشرتهم طوال هذه السنوات، رئيس تحريرها وكذلك مدير تحريرها، ومهندس موقعها الفني، وبالتأكيد رجل الديسك المتفاني المميز، وأيضاً طاقم الديسك كله، من محررين ومترجمين ولغويين، وإدارة شؤونها المالية، وأيضاً الإدارية. وطاقم أمنها، الساهر طوال الليل والنهار. أما مجلس إدارتها كافة، فلهم مني الامتنان كله، ولا أملك إلاّ أن أشكرهم بصفتي الشخصية على كل ما قدموه من عون لكل ما أحتاجه ذات يوم. وكل حقبة وبوابة «الوسط»، صوت ليبيا الدولي، يعلو ويبشر بالخير والأمان والازدهار.