Atwasat

«الوسط»: ثمانية أعوام مع الحلم

سالم العوكلي الثلاثاء 22 نوفمبر 2022, 02:44 مساء
سالم العوكلي

شهر مايو العام 2014، كان قد مضى على انطلاق ثورة 17 فبراير ثلاث سنوات وثلاثة أشهر، وعلى يوم التحرير الذي أصبح عطلة رسمية، 20 أكتوبر، عامان وسبعة أشهر، وعلى أول انتخابات تشريعية تقام منذ انقلاب 1969 عامان وعشرة أشهر، وكنت مع الصديق فتحي الشويهدي في شقة والدته، رحمها الله، بشارع البحر في درنة ــ حيث تتوفر شبكة الإنترنت وكثير من المرح الذي يعكر صفوه الخوف مما بدأ يلوح في أفق ليبيا ــ حين تواصل معي الصديق عمر الككلي ودعاني للكتابة في موقع «بوابة الوسط»، تنبثق عنه جريدة «الوسط» الورقية كل خميس، وبالطبع لم أتردد مطلقا لتلبية دعوة تأتي من الككلي، ومن مشروع صحفي يقف وراءه نخبة من خيرة صحفيي ليبيا، الذين لا يزايد أحد على وطنيتهم وحبهم لليبيا وما يحملونه من أحلام حيالها.

ومنذ نشر مقالتي الأولى «التكفير السياسي» بتاريخ 27 مايو 2014، حتى آخر مقالة الأسبوع الماضي «صناعة العدو المكروه» كتبت حوالي 440 مقالة، وفي كل شأن كتبت، بروية أحيانا، أو بغضب أحيانا، أو بمحاولة لتوثيق لحظات فارقة أحايين أخرى.

مع بداية الحراك الليبي وخروج مدن وقرى الشرق الليبي ومدن أخرى في الغرب عن سيطرة النظام، انفجر الفضاء الليبي المكبوت لعقود بسيل من الجرائد الورقية، بالعشرات، ثم المئات بعد سقوط النظام السابق. قليل منها رسمي صدر عن هيئة الصحافة التي شكل لها آنذاك الأستاذ محمود شمام، مسؤول الإعلام بالمكتب التنفيذي التابع للمجلس الانتقالي.

هيئة تسييرية على رأسها الصحفي والكاتب إدريس المسماري، وكنت ضمن أعضائها، استطاعت، بما شابها من ارتباكات، أن تؤسس لبعض المجلات والصحف الوطنية وأن تدعم مشاريع أخرى، وكان سعي إدريس مدعوما برؤية شمام أن تنفلت الصحافة مع الوقت من عقال ما هو رسمي أو تابع للدولة، وتتحول تدريجيا إلى مجال القطاع الخاص.

غير أن الواقع الذي لم تترسخ فيه علاقة الشارع مع الصحف اليومية وثقافة الصحافة الحرة كان ضد هذا التوجه، إلى أن تم الاستيلاء على مقر الهيئة في سياق حرب فجر ليبيا التي اندلعت بين أطراف (الثوار السابقين) أو بين تيارات مختلفة، كل منها يحاول أن يهيمن على المشهد، وتدريجيا بدأت تختفي ظاهرة الصحف الورقية من الشارع الليبي.

وفي معظمها صحف واكبت الحدث وهيجانه بقوة لكنها لم تستطع أن ترسي في أغلبها بديلا إعلاميا لِما كان يجري في العهد السابق، بعد أن سيطرت السلطة وأيديولوجيتها على فضاء الصحافة الموجهة في غالبها لأكثر من أربعة عقود، نتج عنها ارتياب شعبي تجاه منظومة الإعلام برمتها، رغم بعض المحاولات الخجولة للانفلات من هذا العِقال، لكن المشاريع المتمردة كثيرا ما كان يُخسف بها بطرق مختلفة، وغالبا ما تتوقف.

قبل ذلك دعاني الصديق أحمد الفيتوري للشروع في تأسيس جريدته الخاصة التي طالما حلم بها، وفي مقرها في بيته بحي البركة ببنغازي (ميادين)، وهي حكاية أخرى سأكتب عنها يوما ما، لكن الصديق منصور بوشناف وأصدقاء آخرين في طرابلس أخبروني أنه حين وصلت هذه الجريدة إليهم فترة سيطرة النظام السابق على طرابلس أحسوا من خلال شكلها وخطابها أن ثمة تغييرا حدث فعلا في ليبيا. وهذا هو مربط الفرس فيما يتعلق بالصحافة.

فلقد صدرت عدة صحف وانطلقت عدة مواقع إلكترونية وقنوات تليفزيونية، لكنها ظلت، بشكل أو بآخر، صورة باهتة من صحافة النظام القديم، متأثرة بخطابه وقاموسه ونبرته التعبوية الحادة، وبعضها أسهم بقوة في ما وصل إليه المجتمع من احتقان وانقسامات واستقطاب بما كانت تبثه من فتن وتضليل.

وجاء مشروع مجموعة «بوابة الوسط» بمختلف وسائلها الإعلامية لتؤكد شكلا ومضمونا وخطابا أن ثمة أفقا إعلاميا جديدا يواكب طموحات الفضاء الثقافي الليبي، بما يناسب أهداف وأحلام هذا التغيير، ووصلت جريدتها الورقية الأسبوع الماضي إلى العدد (365)، عدد أيام السنة لو كانت يومية كما رغب مؤسسوها، والتي للأسف لم ألمس حتى الآن ورق نسخة منها، لأنها ممنوعة من الوصول إلى وطنها كأي شيء جميل.

وحين لا يمنع أو يراقب سوى الورق، صحفا ومجلات وكتبا يغدو الأمر كارثة؛ في الوقت الذي تنساب فيه بحرية المخدرات، والسلاح والذخائر والثروات المهربة والهجرة غير الشرعية. ففوبيا الورق مرض مستوطن منذ عقود، في عقول ساسة لا يحترمون الورق إلا حين يكون عُملة.

المهنية التي تمتعت بها جريدة الوسط، وطبيعة خطابها العقلاني والمحايد الذي ينشد فتح فضاء للآراء المختلفة وتوصيل المعلومة المتحرى عنها في زمن الهيجان والغضب والانفعالات والشتائم التي تمتلئ بها وسائل إعلام الأطراف المتصارعة، ما جعلها لا تصل إلى ليبيا ورقيا، ومن قبل كل الأقاليم والأطراف الذين يختلفون في كل شيء ولا يتفقون إلا على مصادرة المعرفة بكل وسائلها.

وهي ظاهرة تعكس، من ناحية، طبيعة الشخصية الليبية، ومن ناحية أخرى، التعود على صحافة موجهة لا تجيد سوى نشر صوت واحد ووجهة نظر واحدة وتطبيلا للزعيم.

ما يتعلق بالشخصية الليبية كونها تعتقد دون شك في «كوجيتو»: إن لم تكن معي فأنت ضدي، أما النزاهة والموضوعية فهي قيم مزدراة في أذهان لم تتعود عليها. من ناحية أخرى الشخصية الليبية لا تتقبل النقد حتى لو كان بَنّاء، رغم أن المتحذلقين كثيرا ما يقولون دون أن يعنوا ذلك (نرحب بالنقد البناء) وحتى الآن لا أستطيع فهم هذا السياق الغامض، فالنقد نقد، وهو خطاب وعلم وعقل، لكن بالنسبة للشخصية الليبية.

خصوصا حين تدخل غمار السياسة أو تتقلد منصبا، فإنه حتى النقد البَنّاء اعتداء على غرورها ونرجسيتها، ومن توجه له النصيحة كأنك تهينه أو تزايد عليه.

وخلال كل هذه السنوات، ورغم صعوبة الأمر، حافظت الوسط «صوت ليبيا الدولي» على هذا النهج، رغم تضحيتها بفرصة أن تتواجد في المكتبات الليبية وفي أيدي المواطنين في المقاهي كما في كل العالم، واعتمدت على التوزيع الرقمي الذي يدخل كل بيت في زمن أصبحت فيه فوبيا الورق مضحكة، لكن النظام الجديد، أو النظم الجديدة المتصارعة على الكعكة، ظلت تستخدم تقنيات تحكم ورقابة النظام السابق (وبشكل أكثر تخلفا) في قفل بعض المنابر الحرة، وملاحقة هذه المطبوعة حتى عبر الأثير، فمنذ فترة لا أستطيع فتح موقع «بوابة الوسط»، ولا دراية لي بتقنيات الالتفاف على حواجز هذا الحصار.

وكلما ضغطتُ على أيقونة بوابة الوسط تظهر لي هذه الجملة المقيتة: «This page isn’t working». الرقابة والمصادرة والحجب والعزل والتكفير بكل أنواعه مفردات فاشية تواصل فعلها في هذا الوطن ومنذ عقود.

أقول في أول مقالة نشرتها ببوابة الوسط (التكفير السياسي): «لذلك سبق أن كتبت على قانون العزل السياسي، بأنه من الممكن أن يشفي غليل البعض أو يحقق مصالح البعض، لكن معه لا يمكن التفكير في قيم مثل الحق أو العدالة أو الديمقراطية أو حقوق الإنسان، لأنه يشكل الجوهر التكفيري الذي قامت عليه أنظمة الاستبداد.

إذن التكفير ظاهرة اجتماعية سياسية قبل أن تكون دينية، وهي تتحقق عبر أشكال وهياكل مختلفة، نراها الآن في معظم حواراتنا السياسية عبر إقصاء الخصوم بمصطلحات تحمل في طياتها تهمة الكفر، وهي أسهل طريقة لمقارعة الخصوم السياسيين دون تحمل مسؤولية إثبات هذه التهم، أو مسؤولية التبين، أو مسؤولية تحمل عواقب القذف والاتهام دون دليل».

في مقدمة كتابي «التاريخ يتجهم والحياة تضحك» الصادر عن (مجموعة الوسط للإعلام)، والذي يحوي مجموعة من المقالات المنشورة في الوسط، أمرُّ على هذه التجربة المهمة مع هذا المنبر الذي عايش أحلام وآلام الليبيين لثماني سنوات مهمة في تاريخنا: «مرت ليبيا في هذه السنوات؛ التي كتبت فيها هذه المقالات، بمرحلة تاريخية كثيفة استلزمها هذا المخاض الصعب لولادة الدولة الجديدة كما تبشر بها مراحل التغيير الجذري.

والوجود في قلب هذه الكثافة التاريخية قد يجعل الرؤية مشوشة، فيغدو التعاطي معها معتمدا على اللمس والحدس ومقاومة الاستسلام للثقل الذي تفرضه هذه الكثافة، فمن يرى الشجرة لا يرى الغابة، والعكس أيضا، لذلك عادة ما تأخذنا التفاصيل اليومية بعيدا عن رؤية الصورة العامة، وقد يتغير الملاحَظ وفق انطباع الملاحِظ لحظة النظر إلى الحدث أو الظاهرة، أو كما لمعت هذه الفكرة في أذهان علماء الفيزياء وهم يفتحون بابا كبيرا صوب النظرية النسبية.

في هذه المقالات؛ التي كُتبت عن الأحداث وهي في خضمها، كل شيء نسبي، حتى وإن عُبِّر عنها أحيانا بلغة واثقة ليست بمنجاة من الانفعال بضغط الوقائع الطازجة التي ما زالت تؤثر في حياتنا اليومية، ولم تذهب بعد إلى ذمة التاريخ الذي غالبا لا ذمة له».

شكرا لـ «الوسط» التي أتاحت لي هذه المساحة وتحملَتْ شطحاتي وارتباكاتي وانفعالاتي أحيانا، والتي جعلتني أتواصل مع الكثيرين خارج الوطن وداخله، وجعلتني أتعرف على أقلام صحفية مهمة تنشر في هذا الفضاء وأقرأ لهم بغبطة من يرى أضواء وهو تائه في نفق معتم .

وشكرا للصامدين في هذه الشرفة المطلة على العالم وعلى ليبيا بوجه خاص؛ الذين لم يستسلموا لتيار التفاهة الذي يخسف بكل ما هو جميل وأصيل في هذا البلد.