Atwasat

عن تكنولوجيا المعلومات والشعر

محمد عقيلة العمامي الإثنين 21 نوفمبر 2022, 01:05 مساء
محمد عقيلة العمامي

(روبرت بن وارن) شاعر، وروائي وناقد أدبي أميركي، حصل على عدة جوائز آخرها عن فئة الشعر سنة 1979، وتوفى سنة 1989، عثرت له على مقالة كتبها قبل وفاته بسنتين ملخصها، أن اجتهاد جيله في المدارس كان يتأسس على مقدرة حفظ الشعر، وأنه استظهر أكثر من 500 بيت من الشعر في سنته الأولى في الجامعة.
ويضيف أنه في بداية حياتية كأستاذ في الجامعة، في خمسينيات القرن الماضي لم يعثر سوى على طالب واحد استظهر قصيدة واحدة، ويختتم مقالته: «ليست هناك فرصة لشباب هذا العصر كي يتعلموا شيئا من الشعر في عالم عملي، لم تعد التربية فيه تعلمك كيف تعيش، بل كيف تكسب معيشتك، بذلك توارت ناحية كاملة من الذات..».

بدأ الوعي التعليمي عند جيلي، والجيل الذي سبقنا، مع منتصف خمسينيات القرن الماضي، وفي منتصف ستينياته، قبيل وصولنا إلى الجامعة كنا نتبارى، عمن يحفظ شيئا من المعلقات، بل أعرف رفاقا حفظوا عن ظهر قلب عددا منها، أذكر أنني كنت مأخوذا بمعلّقة طرفة بن العبد وحفظت جزءا كبيرا منها، ومازلت أذكر العديد من أبياتها.

الوعي بحفظ الشعر والاهتمام به أسسه فينا مدرسون أحبوا الشعر، ومنهم شعراء حقيقيون مازالت أشعارهم يتغني بها مطربون حتى الآن، منهم مدرسنا لمادة اللغة العربية في السنة الثالثة الابتدائية الشاعر الغنائي الأستاذ عبدالسلام قادربوه، أذكر في حصة الإنشاء طلب منا كتابة نص تعبيري عن قدوم الشتاء، فكتب زميلنا عبدالله طلوبة مطلع موضوعه، ووقف عنده، وعندما حان دوره في تسميع ما كتب، قال: «بصراحة يا أستاذ عجبني مطلع الموضوع، ولكنني لم أستطع الاستمرار فيه..» فطلب منه أن يقرأ بصوت عال مطلع ما كتب، فقال عبدالله: «جاءنا الشتاء وعواصفه الهوجاء..» وصمت وأضاف: (بس) هذا فقط ما كتبت! لم أجد كلمات أعبر بها"، فطلب منا الأستاذ عبدالسلام محاولة إتمام مطلع الموضوع، وبالفعل بدأنا في إكمال الموضوع، فيما حوّل زميلنا يوسف بن صريتي، رحمه الله، المقدمة إلى نص مقفى ساخر، فأضاف: «والطيور تزوزق في السماء حبًا» فضحك منها الأستاذ عبدالسلام، ولكن سريعا ما أضاف: «يا يوسف لديك ملكة شعرية، فلا تفرط فيها..». ثم أتم الحصة بمعلومات عن الكتابة الشعرية، وضرورتها وأهميتها.

كانت تلك الحصة هي البداية للشاعر يوسف بن صريتي، الذي أثرى المكتبة الليبية بالكثير من الأغاني منها أغنية «جابك منام الليل، أنا غافي»، وهي التي لحنها وغناها المطرب سيف النصر، ولا تزال من الأغاني الجميلة، وخلال مسيرته الشعرية، أصدر أربعة دواوين من الشعر الغنائي، بين الأعوام 1974 و2008 تحت العناوين: «مشوار العذاب ــ دمع الندم ــ حكاية حب ــ ظلمتك معاي».

الآن يستطيع المرء بسهولة أن يعدد أسماء لشعراء ليبيين معروفين، فلن يتجاوز عددهم أصابع اليدين، لأنه مثلما قال الشاعر الأميركي الذي أشرت له، إن «التربية التي تهتم بالشعر لا تعلمك كيف تعيش، بل التربية الحقيقية في هذا العصر هي تلك العملية، التي تعلمك كيف تكسب رزقك».

أغلب طلاب هذا الزمن الذين يتجهون نحو الطب، والصيدلة، والهندسة، وتكنولوجيا المعلومات، من كمبيوتر وفروعه، هي التي توفر لك الرزق الذي يُعيلك، وبالتالي الحياة الكريمة، ومن قسم اللغة العربية على سبيل المثال، الفرص المتاحة لهم تقتصر على التدريس، وقلة منهم على التدقيق اللغوي، حتى إن تخصصهم أصبح قليلا قياسا لحاجة الدول الناطقة باللغة العربية.

أن الشعر- وأخواته - لم يعد يعلمك كيف تكسب ما يوفر لك حياة مريحة، ولا يوفر لك رزقا كافيا يعينك على معالجة أمراض شيخوختك! ولنا في الشاعر المثقف الخلوق مفتاح العماري مثلا حقيقيا واقعيا في أيامنا هذه، وكان لنا قبله في خليفة الفاخري عبرة، وخليفة فرج وغيرهم كثيرون.

وتاريخ المقالة التي أشرت إليها، يبين على نحو ما، أن الزمن في تأخرنا عن التفكير في واقع الحال أنني متأخرين عن العالم المضيء هو 35 سنة فقط ! وإن كنت أشك في ذلك، إذ لابد أنه أكثر من ذلك بكثير.