Atwasat

حين ميسرة سياسية

رافد علي الخميس 17 نوفمبر 2022, 01:22 مساء
رافد علي

التراشق الأخير بالتصريحات بين رئيس المجلس الأعلى للدولة السيد خالد المشري، ورئيس حكومة الوحدة الوطنية السيد عبدالحميد الدبيبة بسبب عرقلة اجتماع أعضاء المجلس الأعلى للدولة بالعاصمة طرابلس الإثنين الماضي، وضعية توضح أن هناك أبعاداً تتجاوز وضعية تعارض الاختصاصات، إذ رد السيد المشري على تعليمات السيد الدبيبة لوزارة الداخلية بتأمين اجتماع المجلس في اليوم التالي – الثلاثاء الماضي- قائلاً:
«سنعقد جلسة المجلس بالظروف المناسبة لنا، ولست أنت من يقرر موعدها، ولا نريد تأمينك».

لا يعكس حال التصريحات من الرجلين إلا واقع الندية التي يتمسك بها ساسة البلاد في عز فوضتها وجمودها السياسي. ففي عمق حال الندية التي يتمسك بها رجالات الدولة في ظل شرعية مشوشة ومفقودة لغياب انتخابات عامة لسنوات طويلة بالبلاد، يظل جوهر الأمور بين ساستنا في حال حلقة من حلقات صراع مشروعين على الحكم في البلاد، مشروع حكم متدين ومشروع حكم عادي، وليس نظام حكم حديث، لأن الحداثة السياسية في عالمنا العربي لا تزال بعيدة المدى.

المهم في أمر قضية تصريحات (الدبيبة - المشري) على اختلاف توجهاتهما، وبمفرداته المنشورة أنها تدل على أننا ما زلنا في حالة صراع غير موجود حضارياً. فالحركة الإسلامية بما حصدته من مكاسب سياسية، على طول سنوات الحرب والحوار تعتبر نفسها ما زالت في خضم مشروع التمكين السياسي بمنهجيته الساعية لخلق قطبية خاصة بها تمارس عبرها الندية مع الآخر عبر منطق القوة في مواجهة قوة المنطق، أو العكس، بحسب مقتضيات أحوال نهج التمكين في فقه الحركات الإسلامية المعاصرة.

ولهذا ليس من السهل على المشري، كزعيم سياسي، محسوب على التيار المحافظ، ومنخرط بقوة في الأزمة الليبية وحواراتها السياسية أن يقدم تنازلات حقيقية قد تعد تفريطاً بالمكاسب السياسية التي حققها التيار على مدى أزمة البلاد السياسية والحرب الأهلية فيها، فهو من يشرف على تشكيل وفد المجلس الأعلى المشارك في اللقاءات والاجتماعات الليبية - الليبية التي لا تزال عاجزة على تحقيق تسويات سياسية ناجعة بسبب تعنت كل الأطراف من أهل التمكين أو العسكرتاريا وجناحها السياسي المتمثل في برلمان طبرق.

نهج التمكين في الصف المحافظ لا يزال محل توجس غربياً كونه يقف ضد خلق مسار حقيقي للديمقراطية، ويسعى إلى «أستاذية العالم»، والتمكين في التيار الديني المسيس قد أشبع بحثاً وتحليلاً اأكاديمياً وتشبع به المراقبون والإعلاميون والكتاب ورجالات العلاقات العامة في الغرب، وهو الأمر الذي يجعل من حكومات عواصم أوروبا تحديداً تتجنب الإشهار عن علاقاتها بالتيار الديني المسيس، رغم أن حقيقة التمكين السياسي للتيارات المحافظة بالمنطقة العربية قد أضحى عموماً، وليس بليبيا فقط، حالة صيرورة أكثر من كونه مفهوماً ساكناً. حزب النهضة في تونس يظل متهماً بنهجه للتمكين لصالح التيار المحافظ رغم رفعه لشعار التخصص الوظيفي واستغناء الحزب عن نشاطه الدعوي، وذلك لأنه استمر في خلق سيطرة سياسية قوية على مدى عمر ائتلافاته السياسية المهزوزة، لأجل البقاء في السلطة بتونس، وبقصد المحافظة على الفراغ فى منصب المرشد العام للإخوان.

السيد المشري، كزعيم ليبي اليوم بات يحوز القوة بالمعنى التقليدي كمطلب أول في فقه التمكين، والذي عده الشيخ القرضاوي مع اندلاع الربيعيات العربية «نعمة من نعم الله» وجب أن تُفتح فيها الذرائع لا أن تُسد، كرد له على خطباء ومنابر فقهاء الطواغيت بالمنطقة، إلا أن السيد المشري كسياسي اليوم لا يزال لم يوضح لنا تحديداً عن قوة منطق سياسته حيال عاصمة ممزقة أمنياً بين قوى ميليشيات تمارس توازن الرعب في العاصمة، وعن مدى استعداده كرئيس للمجلس الأعلى للدولة لتقديم تنازلات حقيقية ومؤلمة طالما أن الدبيبة لا يزال لم يرد «الأمانة للشعب»، وأن حفتر لم يتخل عن جنسيته الأميركية ولا توجد بالتالي على الأرض «خطوات ملموسة وحقيقية لإجراء انتخابات بالبلاد» بحسب إفادة السيد باتيلي الأخيرة لمجلس الأمن.

التمكين السياسي استفاد كثيراً من مبادرة الشراكة الشرق أوسطية، والتي تحدثت عنها مجلة ميدل إيست بريفينج الأميركية العام 2011 أيام حكم أوباما، والتي استمرت بعهد الرئيس ترامب بكواليس الخارجية الأميركية، واليوم يتأكد وجودها مع انعدام الكبح الأميركي للدور التركي بالمنطقة، إذ تقدم تركيا برئاسة أردوغان لمحة واضحة للدعم الأميركي لأصحاب نهج التمكين بشكل عام عبر البراغماتية الأميركية اليوم. تعاطيها اللبق أولاً، والسياسي ثانياً ينم عن إدراك واشنطن لقوة وسطوة التيار الإسلامي في تلابيب الأزمة الليبية اليوم كإحدى نتائج مبادرتها المذكورة أعلاه، ولعل هذا ما يفسر السماح لتيار السيد المشري بشغل أكبر عدد من المقاعد المشاركة في اللقاءات والاجتماعات متعددة الأطراف والمتعلقة بحلحلة الأزمة الليبية. فالوثيقة المنشورة بمجلة ميدل إيست بريفينج تشير بلا مخاتلة للدعم الأميركي للإسلاميين في ليبيا، وما دعاوات واشنطن المستمرة أخيراً بالحفاظ على وقف إطلاق النار، وتبني أسلوب ضبط النفس هو بقصد عدم زعزعة أسعار الطاقة دولياً بما يربك حلفاءها بأوروبا المنهمكين في حرب أوكرانيا. فأميركياً في ليبيا، الأمن اولاً، ومتعلقات السياسة والخصومة فيها بذات البلاد تحتاج لاختصاص نوعي لم يحن وقته بعد بكل وضوح، فواشنطن تمسك أوراقاً مختلفة ضد الجميع وستستخدمها «حين ميسرة» سياسية.