Atwasat

ثورة الجدائل

سالم العوكلي الثلاثاء 25 أكتوبر 2022, 10:22 صباحا
سالم العوكلي

كما تاريخ شِعْر كل الشعوب، يحشد تاريخ الشَّعر المؤنث بملاحم الغزل والوصف كعلامة جمال ملهمة، وتتعدد المفردات الدالة عليه: (دَوْر)، ممشوط، احداجة، امجدّل، غثيث حين يكون كثيفاً، وامنسع حين لا يكون معقوصاً، وزداوي أو زدوات حين يقسم إلى خصلات متموجة وغير مضفورة: «أظلم زدوات بلا تضفير»، واقصاص (مشّاط اقصاصه بالعدة.. ما ننساه بطول المدة)، وغيرها من المرادفات الوصفية التي تحتفي بجمال شعر الأنثى مُرسلاً تداعبه النسائم في الهواء الطلق وتلفحه أشعة الشمس.

يُشبَّه شقاره الممزوج بحمرة بأشعة الشمس الغاربة أو العسل المسكوب، ويُشبّه سواده بالليل المعتم دون قمر، أو بالغيوم، أو بطوابير المجندين الأفارقة السمر، كما توصف غزارته وطوله بمدى ما يسببه من إرهاق للمشّاطة أو المشّاطات، أو ملامسته الناعمة للأقدام.

في المجتمعات الأفريقية التي لم تغزها الموضات الحديثة، تشير طريقة قص الشَّعر وتسريحته إلى الهوية الاجتماعية، أو الطبقة، أو العشيرة، أو العقيدة، أو العمر، أو وضع صاحبته الاجتماعي، متزوجة أو عازبة أو أرملة، وثمة قصات تعبر عن الأحاسيس أو الحالة العاطفية الراهنة وانعكاس ما تشعر به الفتاة، مثلما نرى الآن في حساب الـ «فيسبوك» عبارات من قبيل (تشعر بالحزن. تشعر بالمرض. تشعر بالفرح... إلخ) ، ومازال بعض أحفاد وحفيدات الجدود الذين رحلوا غصباً إلى القارة الأميركية الجديدة يُعبرون عن هوياتهم في وجه العنصرية ومحاولة السلخ عن الثقافة بنوع القصات والجدائل، أو ما يسمى ضفائر الراستا.
ويأتي هذا التنوع والاهتمام في سياق أسطورة تقول إن الشعر أقرب أجزاء الجسد إلى السماء، ما يجعله فضاءً للتواصل مع الله، وتمثل الكثير من التقليعات نوعاً من التعبد أو الدعاء، كما تعكس بعض التسريحات في المجتمعات الزراعية تمثيلاً تجريدياً للبيئة المحيطة ودعاءً بالمحصول الوفير، وأشهرها تسريحة كورن رووس (حقول الذرة).

من جانب آخر عبرت عديد حركات التمرد الموسيقية على النظام القائم عن طريق تسريحات الشعر أو إهماله تماماً، مثل حركة البيتلز المتمردة على مظاهر الأرستقراطية الأوروبية المهيمنة، الموضة التي غزت أصقاع الأرض في الستينيات، أو تسريحة أفرو التي كانت شعار الحركة الهيبية المناهضة لقيم الرأسمالية وثقافة الاستهلاك، وعبروا عنها بتكوير الشعر المجعد فوق الرأس ولبس الملابس المهلهلة. وضفائر بوب مارلي التي كانت تعكس روح الرستفارية، الحركة الدينية الاجتماعية التي انبثقت في جامايكا في ثلاثينيات القرن الماضي.

في النقوش والكتابة المصرية القديمة عُثِر على أنماط من التسريحات الأفريقية، وتميز الضفائر الطويلة رفعة النسب، وأظهرت بعض التوابيت استخدام الأميرات والملكات الفرعونيات الباروكة أو الشعر المستعار كبديل للتاج، ومنع الدستور القديم علناً الطبقات الدنيا من لبس الشعور المستعارة التي كانت غالباً تصنع من أسلاك النخيل أو شعر الخيول أو الشعر البشري.

تذكر الباحثة زهراء مجدي في مقالتها «التاريخ المؤلم لضفائر الراستا: قرون من العبودية لترك الشعر على حريته» المنشور بموقع «الجزيرة نت» بتاريخ 19 يونيو 2019، أنه: «في الفترة بين القرنين السادس عشر والعشرين، تم تهجير نحو 11 مليوناً و640 ألف أفريقي من قارتهم عبر المحيط الأطلنطي إلى أميركا الشمالية من أجل استعبادهم وبناء القارة الحديثة، وخلال نقلهم في صناديق خشبية محكمة الغلق، تم حلق رؤوسهم لمحو هويتهم القديمة وأنسابهم، وطريقة لكسر نفوسهم للقبول بالدور الصعب دون تذكُّرِ ماضٍ كانوا فيه أسياد أنفسهم. ورغم إلغاء العبودية في أميركا في عام 1865، فإن الضغط على الأفارقة الأصليين استمر للإبقاء على شعورهم بما يتناسب مع المجتمع الأبيض الحديث، سواء بحلق شعرهم تماماً أو تنعيمه وتمليسه، للتحرك والعيش بأمان، والتغطية على أصولهم وعبوديتهم»، وسميت هذه الفترة - رغم التحرر- بـ «الاضطهاد الكبير».

وحقيقة، وفي كل الأمم والحضارات، لم تتوقف العلاقة بين السياسة والشَّعر، خصوصا بين مؤسسات الاضطهاد المختلفة وشَعر المرأة كهدف لهيمنة السلطة الأبوية التي تقود سياسات الكثير من المجتمعات الجامدة، من أجل لجْم الأنثى عن إدراج جسدها ضمن معادلات القوى الاجتماعية والتنوع الجمالي في المجتمع، فمثلما استخدم اليانكيون حلق شعر العبيد لكسر نفوسهم، تستخدم هذه السلطات الأبوية وسائل عدة لكسر نفوس النساء من خلال التحكم في لباسهن ومشيتهن، وشعورهن (جمع شَعر) خصوصا، والأمر بالتغطية الكاملة للشعر حلاقةٌ رمزية وإخصاء جمالي لكائن يعتبر في هذه الثقافة مسكناً للشيطان، ورغم ربط هذا التوجه بالعقيدة وبأوامر الله ظاهريا، إلا أنه تطريز شعائري لهندسة اجتماعية كانت على مر التاريخ تنظر للنساء بعين الشبهة والريبة، لدرجة أن بعض السلطات خصصت شرطة دينية للمراقبة والعقوبة، وغالبا ما يكون ضحايا هذا التوجه العنصري بين الشرائح المستضعفة، العبيد أو النساء المستعبدات في مملكة الذكور الطاهرة.

وما يحدث الآن في ثورة الجدائل في إيران يأتي في سياق ملحمة التمرد الأنثوية على العلبة القماشية السوداء التي ابتكرها الملالي على الإناث وتركوا الذكور يسرحون كما شاءت لهم الشريعة، وبعد أن بلغ السل الزبى بمقتل الشابة الكردية الإيرانية مهسا أميني البالغة 22 عاماً، بعد احتجازها من قبل ما يسمى «غشتي إرشاد» (شرطة الأخلاق) ووفاتها تحت التعذيب بسبب ارتدائها ما يسمونه (حجاباً سيئاً) يظهر خصلة طائشة من شعرها على الملأ الذكوري المصاب بهوس جنسي لا يجعله ينظر للمرأة سوى مائدة فتنة، اشتعلت النار في عديد المدن الإيرانية تحرق ملابس الحجاب والأوشحة والجدائل المقصوصة احتجاجاً، بينما تضامنت نساء من الدنيا معهن بقص خصلات من شعورهن في مقاطع فيديو أو برامج تلفزيونية أو خطب على منصات.
ودائماً كانت ذريعة الطغاة الذين يتحدثون باسم الله هي الحشمة، ومن المفارق أن الحشمة تعني الغضب أيضاً في اللغة.

رائحة الشعر المحروق بدأت تجتاح زوايا هذه الأيديولوجيا المعتمة، في ثورة توصف باسم جميل رغم كل القتل والألم (ثورة الجدائل)، ومن جديد تشتبك الضفائر مع السياسة كما حدث في أزمنة وأمم أخرى.

تستطرد الكاتبة زهراء مجدي في مقالتها المهمة، وفي وصفها للشَّعر حين يكون علامة لهوية الكائن ورمزاً لحقوق الإنسان، فتذكر أن تقليعات الشعر الأفريقي عادت: «في ستينات القرن الماضي خلال حركة الحقوق المدنية كرمز للتمرد والفخر بهوية مفقودة، وكطريقة للاحتجاج على التمييز العنصري، ليظهر ثانية المشط الأفريقي بأسنانه الواسعة، ولكنه الآن بمقبض على شكل تحية نيلسون مانديلا، في إشارة لقوة واتحاد الأفارقة».

تدفع الأنثى منذ إرساء نظام ولاية الفقيه في إيران ـ الذي صُدر بنجاح لكثير من المجتمعات الإسلامية ــ الثمن الأعظم لملحمة التطهر الذكوري التي اجتاحت هذه الحضارة القديمة، ويشير العديد من المؤرخين والمفكرين إلى أنها كانت حضارة أنثى، وخلافاً لما تعتقده حضارات أخرى بكون منبع الحياة ذّكري، فإن الألواح والنقوش الصخرية المكتشفة في بلاد فارس القديمة، ومنذ العصر الحجري، تشير إلى أن منبع الحياة أنثى، كامنة روحها في اللغة وفي الفن ــ اللغة التي ابتكرتها الأمهات كضرورة للتحدث مع الأطفال وبناء العلاقات الاجتماعية ـ والفن الذي عكسه منذ القدم شغف نسوي بالأنشطة الجمالية، فعندما كان الرجال هائمين خلف الصيد، أو والغين في الحروب، كانت الأنثى تبتكر الفنون في حياتها اليومية؛ كفن الغزل والنسيج والخياطة وصنع السلال، ومجسمات الآلهة المؤنثة التي كانت تُنصب في أعلى المعابد القديمة، وحين انقلبت المعادلة الجندرية مع هيمنة العقيدة الذكورية التي تحول فيها الجنس المؤنث إلى خطر أزلي يهدد بخروج الرجال من الجنة، استأنفت المرأة بشكل سلمي عهود مقاومتها القديمة بالفن والجمال، وحينما أصبح الملالي يمنعون المرأة من حقها في التعليم العالي بداية الثمانينيات، كانت المرأة المحتجة توجه طاقاتها إلى الشغف بالأدب والموسيقى والتشكيل والسينما، لتشكل عبر التلاحم بين الفنون الجمالية وعيا سياسيا، وخطابا نسويا فكريا هو الأهم في المجتمعات الإسلامية، وكانت السينما هي الفن الأكثر فعالية وهزا للمجتمع، وتفيد الإحصاءات بأن نسبة منتجات الأفلام من نساء في هوليوود 5% بينما في إيران وصلت إلى 30% ، ومعظمها أفلام تنطلق من الجوهر الأنثوي للحضارة الفارسية، وتعري أساليب إقصاء هذا الجوهر من الفعل في الفضاء العام. أما الأعمال التشكيلية فقد كانت تؤكد جدارة الأنثى عبر زواياها الصامتة، حينما كانت الفنانة ترسم على أي سطح متاح، كالجدران أو قطع الأثاث او جذوع الأشجار، وتذكر الكاتبة مَيس الفارسي في سياق حديثها عن أعمال الرسامة مكرمه قنبري أن المتأمل لرسمها «يدرك أنها كانت تستخدم ألواناً زاهيةً لشخصياتها ما عدا الشخصيات الذكورية؛ فقد كانت تستخدم ألواناً بائسة كالرمادي والأسود، وكانت تصوّرها كشخصيات شريرة».

وهنا يذهب البعض إلى أن الشخصيات الذكورية كانت تمثل زوجها الذي أُجبرت عليه. فبالرغم من كون الرسومات مصدراً جمالياً، إلا أنها كانت تجسد قصصاً واقعيةً ومعاناة وأمنيات الفنانة في إيران، الأمر الذي يجعلها شاهدة على ما يحدث في الأزقة الضيقة وخلف جدران البيوت البسيطة.

وتأتي التظاهرات الأخيرة، ومحارق أقمشة الحجاب، وقص الجدائل، كتجسيد لهذه اللوحات ولكل المجازات والاستعارات التي ضمنتها الفنانة الإيرانية في شتى أنواع فنونها.
وعلى مدى التاريخ، كان الصراع بين الشِّعر الذي يرى في شَعر الأنثى مَعْلماً جمالياً، وبين السلطات الورعة التي لا ترى فيه سوى لغة رمزية تهدد سلطة ومصير الذكور.
ولا يهم من يكتب تاريخ إيران الظلامي طالما المرأة هي من يكتب شعرها.