Atwasat

بعد سقوط روما

جمعة بوكليب الأربعاء 05 أكتوبر 2022, 11:04 صباحا
جمعة بوكليب

يوم الأحد الموافق 25 سبتمبر 2022، سقطتْ العاصمة الإيطالية روما في أيدي اليمين المتطرف. الشعب الإيطالي، ديمقراطياً، عبر صناديق الانتخاب، اختار ائتلافاً يمينياً، تترأسه سيدة اسمها جورجيا ميلوني، ليقود البلاد في المرحلة المقبلة. الائتلاف المذكور يضم ثلاثة أحزاب يمينية، اثنين منها يتسمان بالتشدد (حزب إخوة إيطاليا برئاسة السيدة ميلوني، وحزب الرابطة بقيادة السيد ماتيو سالفيني) والثالث معتدل (حزب فورسا إيطاليا بقيادة رئيس حكومة سابق هو السيد سيلفيو بيرلسكوني).

الحدث الانتخابي الإيطالي كان متوقعاً. وتنبأت به استطلاعات الرأي العام. وأصبح حالياً أمراً واقعاً، يحظى بالشرعية. وبالطبع، فإن حدوثه تسبب في تفاقم القلق في دوائر سياسية عديدة، خاصة في بروكسل، مقر رئاسة الاتحاد الأوروبي. إيطاليا عضو مؤسس في الاتحاد، وثالث أكبر اقتصاد فيه. ما يميز حدث سقوط روما في أيدي اليمين المتطرف هو تزامنه مع الذكرى المئوية لدخول أرتال القمصان السوداء الفاشية، بقيادة الدوتشي بنيتو موسوليني، إلى روما، والسيطرة على كل إيطاليا.

قبل سقوط روما، تمكن اليمين المتطرف من الاستحواذ على عواصم أوروبية أخرى. آخرها كان العاصمة السويدية استوكهولم، حين نجح حزب «السويد الديمقراطية» من اكتساح صناديق الانتخابات النيابية والفوز بنسبة 20 % من أصوات الناخبين، وهي ثاني أكبر نسبة أصوات.

وقبل ذلك، تمكنت السيدة مارين لوبان في باريس من تحقيق فوز انتخابي غير مسبوق، وتوطدت أركان حزبها المتطرف تحت قبة البرلمان الفرنسي. وقبل باريس، سقطت العاصمة البولندية وارسو، والعاصمة المجرية بودابست. وهذا بدوره يقودنا إلى السؤال التالي: هل حان زمن أفول الليبرالية؟

تابعتُ باهتمام الحدث الإيطالي الانتخابي. وقبله تابعت الحدثين السويدي والفرنسي في مختلف وسائل الإعلام. وحرصت، ما أمكن، على متابعة وملاحقة ما نشر من تقارير وتحليلات لمعلقين سياسيين أوروبيين من مختلف ألوان الطيف.

وفي تفسيرهم لما حدث ويحدث، يتفق المعلقون الأوروبيون، باختلافهم، على أن الخوف من العودة إلى الحرب والموت والدمار، بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، كان السبب وراء انتشار وتوطد الأنظمة الليبرالية في معظم بلدان أوروبا الغربية. كان هناك خوف في تلك البلدان من عودة الحركات النازية والفاشية وسيطرة الأنظمة الشمولية. وهذا بدوره أدى إلى تمهيد الأرض أمام الفلسفة الليبرالية والأنظمة الديمقراطية لتتمدد وتتوطد، وترفرف أعلامها في بلدان أوروبا الغربية.

الخوف، أيضاً، يؤكد المعلقون الغربيون، كان وراء انتشار الأحزاب اليمينية المتطرفة، خلال الألفية الثالثة، وتمكنها من مغادرة الهوامش التي كانت حبيسة داخلها طوال نصف قرن أو أكثر، والتسرب علناً إلى المتون الرئيسية، وفرض حضورها سياسياً في الملاعب الأوروبية، وفقاً لقواعد اللعبة الديمقراطية، وقنواتها الشرعية.

الخوفُ من الرجوع إلى الوراء، والعودة إلى معاناة آلام الحرب والدمار، أدى إلى انتشار الليبرالية عقب الحرب الكونية الثانية. والخوف من غموض المستقبل، هذه الأوقات، كان أيضاً السبب وراء نجاح الأحزاب اليمينية المتطرفة، خاصة بعد انتشار أمواج الهجرة وما أثارته من ردود افعال شعبية مناوئة، ثم كارثة الأزمة الوبائية، وتلتها أزمة الحرب في أوكرانيا وتداعياتها السلبية على السلم الدولي، وعلى الاقتصاد العالمي.

خبراء علم السياسة الأوروبيون، يرون أن الساسة في البلدان الأوروبية استغلوا عامل الخوف في المرتين. في المرة الأولى، عزفوا من دون توقف على وتر خوف الناس من الحرب، ومن إمكانية عودة الأنظمة الشمولية وفقدان حرياتهم. وفي المرة الثانية، لعبت الأحزاب اليمينية المتطرفة بدهاء على نفس الوتر، وأرعبت الناس من مغبة مواجهة مستقبل معتم، يهدد وظائفهم، وإرثهم الثقافي، وحيواتهم.

وبالتالي، لم يعد أمامهم سوى إغلاق أبواب بلدانهم، والتحصن داخل أسوارها، لحماية أنفسهم ومعتقداتهم وتقاليدهم، حماية لهم من أمواج مهاجرين بمعتقدات وتقاليد وألسنة مختلفة، ومن ثقافة ليبرالية تبيح المحظورات، وتهدد تلك المعتقدات والعقائد، وتلغي الحدود المتوارثة والمتعارف عليها على كافة المستويات.

بعد سقوط روما، أخيراً، ستكون رئاسة الاتحاد الأوروبي في وضع لا تحسد عليه. وستجد نفسها في محنة غير مسبوقة. فالعدو، ممثلاً في أحزاب اليمين المتشدد، قد تمكن، بقوة القانون، من اقتحام الأبواب، واستحوذ ديمقراطياً على نسبة ملحوظة من مقاعد البرلمان الأوروبي، وأصبح حاضراً وفعالاً في جلسات الرئاسة، وبأجندة معادية لأجندة الاتحاد الأوروبي، ولكل ما يدعو إليه. وإلى جانب وارسو وبودابست وفيينا ستكون، من الآن وصاعداً، استوكهولم حاضرة، وإلى جانبها تتربع روما، بقيادة ميلوني وحزبها بجذوره الفاشية.

وروما ماريو دراغي غير روما جورجيا ميلوني وسالفيني وبيرلسكوني. وبالتأكيد، فإن مهمة الرئاسة في بروكسل لن تكون سهلة أمام مناورات المحور اليميني الجديد.
ولا ننسى كذلك التأثير السلبي على مسارات الأزمة الليبية بدخول لاعبين متطرفين، يطالبون بفرض حصار بحري قبالة الساحل الليبي ضد قوارب المهاجرين، ويهددون بتصعيد حرب المصالح في ليبيا ضد فرنسا وتركيا وروسيا.