Atwasat

المعلم الفلسطيني خارج المكان

سالم العوكلي الثلاثاء 04 أكتوبر 2022, 04:24 مساء
سالم العوكلي

هذه بعض حكايات حدثت لي أو قربي وشاهد عليها، ما يبعدني عن التخمين أو إيراد معلومة خاطئة. بعض حكايات عايشتها عن قرب، أحكيها، لأنها بقدر ما هي خاصة وشخصية وتعني أشخاصا قريبين مني، بقدر ما تمثل ظاهرة أو ظواهر سامة سأتطرق لها.

حين باشرت العام 1994 في إجراءات تعيين زوجتي الفلسطينية، الحاصلة على ليسانس لغة إنجليزية من (جامعة قاريونس) وقتها، طُلب منها السفر إلى العاصمة سرت آنذاك من أجل امتحان مدى أهليتها في الاختصاص، وبعد رحلة مضنية على طائرة فوكر متهالكة من مطار لبرق إلى مطار سرت والحجز ليومين في فندق، أجري لها امتحان تحريري في قاعة كان يشرف عليها أستاذ عراقي، وتجاوزتْ الامتحان لأباشر بقية الإجراءات.

وحين قلت للموظف المسؤول ملاحظتي حول منطقية الامتحان رغم أن الخريجة درست مراحل الابتدائي والإعدادي والثانوي في مؤسسات التعليم الليبي، وإن هذا الامتحان يشكك في هذه المؤسسات من ناحية، ومن ناحية أخرى، إذا كان لا بُد منه لماذا لا يجرى للخريجين الليبيين من الجامعة نفسها، فقال لي هذا الامتحان يخص الأجانب فقط وهذا هو القانون.


وبعد سنوات من تدريسها في المرحلة الثانوية، أمر القذافي في خطاب منفعل بشأن مشروعه لحل الأزمة الفلسطينية عبر ما سماه إنشاء دولة إسراطين، بطرد الفلسطينيين من ليبيا ووضعهم على الحدود بين مصر وليبيا، وتبعه قرار تعسفي بفصل كل الفلسطينيين من الوظائف المختلفة في الدولة.وجاء اسم زوجتي ضمن القوائم المفصولة عن العمل.

وترتب عن ذلك عدة مشاوير مرهقة إلى العاصمة سرت للمباشرة في إجراءات تعيينها من جديد، لأن عقدها كان تحت اسم (معاملة الليبيين) ولا ينطبق عليها قرار الفصل، واعترف الموظف بالخطأ، لكنه قال لي ملاحظة ملفتة ما زلت أذكرها جيدا: أنت تعرف كراهية الموظفين الليبيين للأجانب والحماس لطردهم أو فصلهم، وهذا ما جرى مع زوجتك بمجرد أن لوحظ على ملفها أنها فلسطينية.

وصلت أسرة زوجتي إلى ليبيا في نهاية الستينيات، حين كان عمرها عامين، درست كل مراحل تعليمها في ليبيا، ومنذ العام 1994 وهي تُدرِّس مادة اللغة الإنجليزية بعديد المدارس الثانوية بدرنة، وبعقد (معاملة الليبيين) لأنها زوجة ليبي، دفعتْ كل الضرائب والاستقطاعات الخاصة بالعاملين الليبيين، بما فيها ثمن البندقية ودعم مشروع النهر الصناعي، لكن مع الوقت وكلما صدر قرار متعسف بخصوص الأجانب؛ بما فيه فصلهم من الوظائف، كانت تجد نفسها في القائمة، والآن حين وصلت الزيادة لمرتبات المعلمين لم تُعامل «معاملة الليبيين».

ووجدت نفسها في قوائم الأجانب الذين ما زالت لم تصلهم الزيادة حتى الآن، على الأقل في بلدية درنة كما أعرف، بل أوقِف راتبها منذ شهر فبراير، أحيانا بحجة أن ليس لها رقم وطني، أو ليس لديها إقامة، واليوم اتصلت بها المدرسة العاملة بها لتخبرها بأنها كُلِّفتْ بتدريس ثلاثة فصول من الشهادة الثانوية العلمية رغم إيقاف راتبها من شهور، بحجة نقص في معلمي المادة، رغم وجود العديد من المعلمين الذي تأتيهم الزيادة في المرتب، بينما المعلمات الجديدات من تلميذاتها السابقات اللائي درست لهن يتقاضين ضعف مرتبها، فقط لأنهن يتمتعن بالجنسية الليبية.

في الفترة الماضية كان مقررا لها أن تجري عملية جراحية طارئة لا تحتمل التأجيل، لكنها أجلتها حين سمعت بطالبة في درنة تتلقى جرعات علاج كيميائي في مصراتة، ما اضطرها للغياب عن بعض الحصص وعن امتحان الدور الأول في مادة اللغة الإنجليزية، فتفرغت لها تماما رغم الآلام التي كانت تقاومها بالمسكنات، ولتذهب إليها في بيتها كي تعوضها عن الدروس الضائعة، وحين اتصلت بها والدة الطالبة لتبشرها بنجاح ابنتها كانت فرحتها عظيمة لدرجة نسيت ما يلحق بها من ظلم واضطهاد.

ستظل المعلمة الأجنبية رغم عيشها كل حياتها في ليبيا، وزواجها من مواطن ليبي، وإنجابها لبنت وثلاثة أولاد ليبيين كلهم تخرجوا في الجامعة (نصفهم لم يحصل على عمل)، ورغم أنها دفعت كل استقطاعات الضمان وصندوق الجهاد وثمن البندقية ودعم النهر الصناعي وغيرها، ستظل الأجنبية التي عليها أن تتحمل عبء جداول المعلمين الليبيين المتغيبين، بعذر أو دونه، عن المدارس والذين يتقاضون ثلاثة أضعاف مرتبها الهزيل والموقوف منذ شهور.

ولكن لن أستغرب ذلك بعد أن عايشت معاناة معلم فلسطيني آخر لم يُنصف، درّس في درنة منذ أوائل الستينيات من القرن الماضي، وتخرج على يده رجال الآن يحملون شهادات عليا وبعضهم في مناصب مرموقة، وهو المعلم الشهير في درنة وضواحيها، عباس مرشد، أستاذ الفيزياء الفلسطيني في درنة منذ اليوم الرابع من شهر سبتمبر 1963 إلى 31 أغسطس 2007 ، لم يتغيب طيلة أربع وأربعين سنة عن حصة إلا مرة واحدة، ولسبب يجعله أسطورة في هذه المهنة العظيمة، فحين أصيبت زوجته بحروق شديدة نُقلت على إثرها إلى مستشفى في مدينة بنغازي التي تبعد 300 كم عن درنة، استمر يزورها يوميا هناك.

يذهب في سيارة أجرة بعد الدوام مباشرة ويعود ليلا كي لا يغيب عن حصصه، إلى أن جاء يوم ــ كما أخبرني الأستاذ مفتاح اخليفة مدير مدرسة الأسطى عمر السابق ـ جاء يوم وأعطى فيه الحصص الأولى والثانية ثم دخل مكتب المدير لأول مرة كي يطلب إذن تغيب عن الحصة الخامسة، اندهش المدير لأن الأستاذ عباس أول مرة يطلب إذنا، وسأله عن السبب، فقال له: زوجتي توفيت البارحة ودفنها على الظهر.

وطيلة هذه السنوات كان الأستاذ عباس يتطوع يوميا لإعطاء حصص تقوية مجانية لمن يريد في المساء، وكان ينقل التلاميذ البعيد سكنهم عادة في سيارته، وجميع من مر به يتحدث عنه كأسطورة في التعليم. ولم يمنع كل ذلك من فصله من التعليم ضمن القرار التعسفي بطرد الفلسطينيين، وتوقف عن العمل عامين إلى أن تعاقدت معه شعبية البطنان معلما في مدرسة أم الرزم إلى أن تقاعد.

حين تقاعد ورغبنا في تكريمه بجمعية بيت درنة الثقافي، في سياق العمل على إعادة قيمة (التكريم) التي ابتُذِلت في عصر الجماهير وما بعده، ذهبتُ رفقة الزميل إبراهيم بوحمرة إلى شقته في شارع الفتح بمدينة درنة، ومن أول دخولنا شاهدنا مظاهر ضيق الحال، استقبلنا بحفاوة وبثياب العمل الملطخة، واكتشفنا أنه بعد تقاعده أصبح دون دخل، فاضطر للعمل كهربائيا ليحصل على قوت يومه، وطيلة الجلسة لم يتحدث إلا عن طلابه الذين أصبحوا مرموقين ويتفاخر بهم.

سعينا لدى مؤسسات الضمان والتضامن ونقابة المعلمين من أجل بادرة تنصف هذا الرجل، لكن الجميع أبلغنا أن القانون لا يسمح باعتباره أجنبياً، إلى أن سمعت فيما بعد بتعاقد تعليم بلدية القبة معه وعودته للمهنة التي يعشقها، وتدريسه في مدينة القبة، وصبيحة يوم 2 مارس 2022، نهض في الصباح بآلام حادة في صدره، وكما أخبرني ابنه في مأتمه، أراد أن يأخذه للمستشفى ولكنه أجّل الأمر لأنه مرتبط في مدرسة القبة التي تبعد 45 كم عن مسكنه.

ببعض الطلاب ليشرح لهم مجانا دروسا في الفيزياء، ومرتبط بإيصال الامتحان إلى المدرسة، ولأنه لم يستطع قيادة السيارة تكفل ابنه بإيصاله، وأثناء شرحه للدروس وقع من طوله، ولم يكن الوقت كافيا لإسعافه، ولاقى وجه ربه وهو في ذروة عطائه وبعد أن أوفى بمواعيده، ودون أن يحصل على الزيادة في مرتبات المعلمين.

وحتى لو حُلت هذه المشكلة، فالسؤال الملح لماذا حصلت من الأساس؟ لكن معاملة الأجانب في ليبيا بشكل عام يشي بظاهرة تتعلق بثقافة التسامح والتوجس من الآخر، وكما يرد في التقرير النهائي للمسح الشامل لآراء الليبيين في القيم؛ الذي أجراه مركز البحوث والاستشارات بجامعة بنغازي، ضمن برنامج المسح العالمي للقيم: يتضح تدني منزلة قيمة التسامح في هرمية المنظومة القيمية الليبية من البيانات التالية:

ــ نسبة من لا يرغب في أن يكون جاره من عرق آخر تبلغ في ألمانيا (التي اشتهر شعبها لعقود بالتمييز العنصري) 14.8 %، وفي إسبانيا، 4.8 %؛ أما في ليبيا فتصل إلى 55.1 %، وهي نسبة لا يتفوق عليها بلد آخر في العالم سوى أذربيجان (58.1%).

ــ نسبة من لا يرغب في أن يكون جاره عاملا أجنبيا تبلغ في الأرجواي 1.7 %؛ أما في ليبيا فتصل إلى 59 %، وهي نسبة لا تتفوق عليها سوى ماليزيا (59.7 %).

وبغض النظر عن نسبة الخطأ الضئيلة في مثل هذه الاستطلاعات العلمية، إلا أنه يمكن رصد ظاهرة كره الأجانب الغالبة في الكثير من الممارسات مع العمالة الوافدة أو داخل مراكز الهجرة غير الشرعية، أو اتهام بعض الليبيين أنهم من أصول أجنبية في الصراعات السياسية الحالية، أو ما يحصل الآن مع معلمين ومعلمات فلسطينيات ولدوا في ليبيا أو عاشوا فيها عقودا، وما تعرضوا له من ظلم ومضايقات وتمييز طيلة عملهم، وأنا شاهد عليها بل وعانيت منها بحكم عمل زوجتي لمدة 38 عاماً في التعليم بدرنة.

العنصرية الكامنة في اللاوعي الجمعي أسوأ وأخطر من العنصرية المعلنة في وعي بعض التيارات السياسية أو الأحزاب. أما تاريخ عطاء خبراء التربية والمعلمين الفلسطينيين في ليبيا منذ الإدارة الإنجليزية والاستقلال وحتى الآن لا يخفى على أحد، وعلى أيديهم تخرجت أجيال من النخب الليبية في كل مجال.