Atwasat

لا عزاء للمسنين

محمد المغبوب الإثنين 03 أكتوبر 2022, 10:10 صباحا
محمد المغبوب

لا عزاء لنا في عمر تبدد بين فراغ وبين مكان لزج ونحن في خريف العمر، مررنا بصيف حارق وشتاء قارس، نرنو إلى ربيع لا يأتي نكاية فينا، نحن الذين لم تضحك الدنيا في وجهونا ولم تبتسم لنا الحياة حين كنا تحت ظل التاج الباهت وتحت أقدام نعال شباب طائش، زرعوا لنا من الوهم جنة الفردوس وكنا على سنوات الجمر نركض ولا نصل، فكلما ومض في السماء برق وجدناه يخطف أبصارنا، فلم نعد نرى بين سواد الليل وبين نهار غبشه غيرنا، فاستعنا بنظارات سميكة أوجعت رؤوسنا بصداع الأمنيات.

بكل أسف لا عزاء لنا في اليوم العالمي للمسنين، وقد نحفت نعالنا من المشي إلى هدف لا يتحقق، فضمتنا أفران الكلام عند طاولات المقاهي نلوك الكلام الممنوع همساً والمباح بصوت عالٍ، وقد استنفدنا كل قوانا لا النادي فتح أبوابه ولا صالونات الثقافة ضمتنا، وقد ملتنا "ركابات" المساجد ونظرات الشباب المفزعة نسأل عن حال المريض وسعر الدولار وجيوبنا فارغة، وعن طابور السيولة وحقن السكري وحبوب الضغط ونهمل عن عمد المصحات العامة الفقيرة، مثلنا ندعو الله حسن ختام بداية أربكت أعمارنا وأثقلت قلوبنا هماً وغماً.

كبرنا يا الله على طاعتك وحين عصيناك استغفرناك فأنت الغفار بعد أن صارت ظهورنا أحصنة للأحفاد يلعبون بنا ونحن بلعبهم فرحون حد المرارة.

لا عزاء لنا وقد صرنا أرقاماً وطنية في السجل المدني وفي الضمان الاجتماعي نعد ساعات طرح الأحمال ووقت جريان الماء في الأنابيب ومن مات مغبوناً ومن على فراش المرض كي نزوره على دابة كورية بها الأعطاب أو على الكراسي المدولبة نفكر كيف نقفز بها على الرصيف العالي وكيف نقطع الطريق تسير فيه العربات الفارهة لشباب في العشرين وبعنفوان الأسود وكأننا السلاحف التي تعطلت سرعاتها.

ملتنا البيوت فقد ضاقت بنا من زحام الكلام بيننا فلا فضاء يضمنا، مكتبة عامة مثلاً أو منتدي ثقافي، أو رحلة ترفيهية في غدامس فجنيف ومثلها لأصحاب المناصب أصلح الله عقولهم ورقق قلوبهم الغليظة فهم لا يبصروننا حتى ونحن أمامهم.
ذهب عنا كل شيء تلك الطلعة الصباحية إلى أعمالنا، عودتنا محملين باحتياجات بيوتنا الفقيرة بمعاشات هزيلة، وتلك ابتساماتنا للجيران كي نخفف من شدة الشفقة ولم نحسب أن غول العمر الذي صنعوه لنا ينتظرنا ليأكل ما تبقى لنا من عظم هش ودم على وشك أن يتجلط ولحم لا تنضجه نيران قهرنا وهمومنا، فيما القطة المجنونة تلتهمنا كما تأكل صغارها بسبب ما يجري ومازال يجري ونحن لا مفر ولا هروب لنا وقد تفرعت الطرق وتعددت الأزقة والدروب أمامنا وجعلتنا في حيرة أيها الأقصر مسافة كي نسلكه فقد بدأ الوقت ينفد منا فلا طائل من البقاء.

لا عزاء لنا ولا سلوى بعد أكثر من ستين خريفا عصفت بنا رياحه ونزعت الأوراق وأزهارنا فابيض الرأس وملأت الأخاديد وجوهنا وتكلس السائل الزلالي في مفاصلنا وقصر نظرنا نحتفل بما وصلنا إليه من خيبة رافقتنا ولم نشعر بها.

قد لا يغني القول عن الفعل أو هو هكذا فنحن لا نلوم أحدا إلا أنفسنا فقد كانت لنا أدوار من المفيد لو قمنا بها، كما أننا لا نرى لهذا أولادنا أن يكرروا ذات التجربة التي كانت مرهونة بالظروف المحلية والعالمية، لأننا نريدهم ألا يستسلموا ولا يهنوا ولا تخور قواهم كي ينجزوا لهم غدا فشلنا نحن في إنجازه، أن لا يرضوا لمن يعتلي السلطة ويتكرس بها كأنه يتشبث بطرف عباءة أمه كي لا تفقده ألا يكون وفق اختيارهم يأتون به في وضح النهار ويشعل المصابيح ليبدد العتمة ويمهد الطريق الوعرة أمام خطواتهم ولا ينام إلا بعد أن يتفقد كل شيء ويجعله صالحاً لهم يرتقي بهم ويصعدون على ظهره خادماً لا سلطاناً مستبداً عليهم يسرف في إنفاق المال عليه وعلى حاشيته مهملاً عن عمد كل أوجه الحياة العامة فلم يبن لهم وبهم مجدا ويبني حضارة عاملة فاعلة تبهر من حولها ومن أقصاها.

هذا اليوم ليس مناسبة للبوح بما تكنه الصدور بل هو مهرجان العقول كي تعيد التفكير فيما يجري بعد الذي جرى حرصاً على وطن يضمنا جميعاً نريد عامه ربيعاً وحياة سلسة كريمة للرضع وللشيوخ معا. فلنا من الإمكانيات ما يبني مدنا في المريخ ومن العقول ما نفكر به لمستقبلنا جميعا لا بغض ولا حقد ولا حسد ولا شحناء بيننا ننبذ كل التوجهات الشيطانية وإملاءات الأعداء علينا فلا خير في من لم يقل حقاً وصدقاً وعدلاً وجهر به .

إن الوفاء وهو سمة حسنة وخصلة صالحة للكبير وحسن معاملته يعد فعلاً مؤجلاً لصغار السن الآن، فكل مسن يحتاج إلى رعاية خاصة من قبل المؤسسات الرسمية وهو واجب عليها لم تقم به ونحن كم مهمل على ضفة حياة لم تكن لنا قبل خروج الإسبان وبعدهم
وهي أمور تمتاز بها الدول المتقدمة وتعدها سمة حضارية تليق بها والشرح يطول.

نحن لا نتسول الحكومة بقدر ما نعرض عليها احتياجات المسنين في دفع فواتير الكهرباء والمواصلات وتذاكر السفر ومصاريف الجامعات وحتى المشروبات في المقاهي وشواطيء للتصييف ومصاريف العلاج خاصة الأمراض العصرية وهي عادة في أغلب الدول تكون بنصف القيمة أو إعفاء تام.

نحتاج إلى أكثر من ذلك والمؤسسات المزعومة تدرك حاجة المسن جيداً وتقف متفرجة كأنها فينا شامة.

أيتها الزوجة المسنة سامحينا وألف عذر منك فقد أثقلناك خدمة وانتظاراً وخوفاً فقد فرشنا الدار حصيراً وملأنا الفضاء آهات حسرة عليك وعلينا فلا بهجة قدمناها لك ولا فرح أتينا به إليك ليس إلا أصواتنا العالية نصب عليك غضبنا من زمن لم يكن وأعطاب لم نقدر على إصلاحها وآنينك في مسامعنا مزق قلوبنا فقد كنا نتركك وحيدة مع عيال يلحون على تحقيق حياة كريمة لهم لم نطلها، تضعين القدر على النار وفيه حجر لا ينضج أبداً وأنت تعلمين أن ابن الخطاب لن يمر ببيتنا أبدا
اغفري لنا عجرفتنا وعنجهيتنا فقد كان الوضع وما زال وأنت شاهدة يدفع بنا إلى الجنون أحياناً.

ماذا بعد؟
لا شيء!
لا بهجة في القلب ولا ندى على ورد العمر ولا غيث نزل، ليس إلا الثواني تزحف علينا ونغفل عنها في بلاد تصحرت تنعب الغربان على الغرابيب السود فيها حين نصحو وعند نومنا نلعب كالأطفال مع كوابيس صارت لنا رفيقة شمطاء.