Atwasat

زحمة يا دنيا زحمة

سالم العوكلي الثلاثاء 27 سبتمبر 2022, 12:53 مساء
سالم العوكلي

لفتت نظري مقالة الكاتب والأديب جمعة كليب المهمة «زمن السح اندح أمبو» في «بوابة الوسط»، بتاريخ 7 سبتمبر 2022، التي يناقش فيها إدراجاً للكاتب عمر الككلي حول لا مبالاة القراء حيال مقالته، المعنونة «نُبل سالي روني والعسف الإسرائيلي» لأهميتها «في الموقف من التطبيع العربي مع دولة العدو الصهيوني.». غير أني سأتجاوز موقتاً الحديث عما أزعج صديقي عمر، إلى السطور الأخيرة من مقالة جمعة التي عنونها باسم أغنية شاعت كثيراً في زمنها بقدر ما شاع اسمها كتعبير عن ازدراء لظاهرة غنائية كانت تتملص من شروط الفن المهيمن.

يقول جمعة في السطور الأخيرة: «في السبعينات من القرن الماضي، كنا حين نسمع المطرب الشعبي أحمد عدوية يصدح مغنياً (السح اندح إمبو) نستهجن جداً تلك الكلمات، ونتساءل عن معناها. وها نحن الآن نعيش في زمن لا يليق به سوى ذلك الوصف.». ومجرد ذكر عقد السبعينات لا يعني فقط تأطيراً زمنياً، ولكنه عقد مفصلي، كثيراً ما يتوقف عنده مؤرخو الأفكار والسياسة والأدب والفن كعقد مهم حدد العديد من سمات ما تلاه، وغالباً ما يوصف بمرحلة «ما بعد نكسة 67» التي وضعت منتج الفن والأدب ومتلقيهما في منطقة أخرى من المراجعة لكل شعارات العقد السابق، وبمعزل عن كل هذه التحولات التي تطرق إليها اعديد الكتب والكتابات النابهة، إلا أني سأتوقف عند السطور الأخيرة، ليس دفاعاً فقط عن مغنِ أحببته في مراهقتي ومازلت أحب الاستماع إليه، ولكن لأن انزعاح عمر ومواساة جمعة له حيال قضية يجب أن تكون مركزية ــ ليس في بعدها العربي أو الديني، ولكن كقضية أخلاقية تعني الضمير الإنساني أينما كان ــ قد ينتج رابطاً بما سوف أذهب إليه، خصوصاً أن الاستماع لعدوية في تلك الفترة كان جالباً لتهمة التطبيع مع الفن الذي يوصف بأنه رديء.

أصبح عدوية في تلك الفترة وما بعدها رمزاً جاهزاً للحديث عن التفاهة أو السطحية التي تتهدد الأغنية المصرية، وكثيراً ما استفزني هذا الاختزال لـ«الظاهرة العدوية» التي كانت ضحية هيمنة طبقة على الفن ربطته بذائقة النخب ومزاجها الأرستقراطي، وابتعاده عن االعامي، أو عن قاع المجتمع المزدرى من قبل سلطات تهيمن على وسائل البث والنقابات وقنوات التسويق الرسمية.

كنت ومازلت ولوعاً بالفن الشعبي المصري الذي انتمى له عدوية وغيره من المغنين المغضوب عليهم، وكنت أخفي هذا الإعجاب الذي أحسست ساذجاً أنه يتهدد وضعي كشخص محسوب على الثقافة أو النخبة، وأعادتني مقالة الصديق جمعة إلى البحث عن كتاب قرأته بداية التسعينات من القرن الماضي، ورغم ذاكرتي التي غالباً ما تتنسى قراءاتي إلا أنها أسعفتني في تذكر أن هذا الكتاب يتطرق للمغني أحمد عدوية بشكل واسى خجلي من استمتاعي المخفي بأغانيه.

كتاب «ما بعد الحداثة: العرب في لقطة فيديو»، للناقدة مي غصوب، حيث تتطرق لمقابلة أُجريت العام 1991 مع الكاتب المسرحي البريطاني ديفيد هَير، في برنامج ثقافي وفني تقدمه إل بي بي سي (The Late Show) وتركز على عبارة رددها، مؤداها: إن من الواضح أن جون كيتس شاعر متفوق على بوب ديلان بما لا يقاس. وتقر بأن هذه العبارة هزت الكثير من المشاهدين، بل راعتهم، والبعض رحب بها باعتبارها عبارة شجاعة بعد أن اضمحل الاحترام للفن الرفيع. وتشير إلى أن النقاش احتدم بين مفهومي الفنين: الرفيع والوضيع، طيلة ساعة كاملة. تقول غصوب: «لقد ذكرني النقاش الذي دار حول ملاحظة ديفيد هير بحادثة أظنها طريفة أُتيح لي أن أشاهدها خلال زيارة إلى القاهرة: في أمسية قراءة ونقاش ضمت سحابة مئة مثقف مصري وعربي... تُليت نصوص أدبية عدة ثم فُتِح الباب لأسئلة الحضور، وما لبث النقاش أن تَركّز على العلل الكثيرة التي يعاني منها المجتمع المصري، علماً أن النصوص التي تُليت لم يكن لها ـ إن لم تخني الذاكرة ـ أية صلة بهذا الموضوع. في هذا الإطار وجِّه لوم ونقد شديدان لسياسة «الانفتاح» الاقتصادي كما اتبعها الرئيس أنور السادات فاعتُبِرت المسؤولة عن علامات الانحطاط كلها. لكن من هو الرمز الذي كان التعبير المقيت عن هذا كله؟ المغني الشعبي أحمد عدوية. فمن يستمع إلى ملاحظات الحضور يخال أن هناك خطة منسقة قضت أن يكون السادات على رأس السلطة السياسية، وعدوية على رأس السلطة الفنية الموازية، وهذا كله تم تنفيذه على حساب الجماهير المصرية التي تم إغواؤها وجرها إلى هذا الفن الوضيع». وتستطرد الكاتبة في مقطع ــ اكتشفت أني وضعت حوله دائرة بقلم حبر ــ قائلةً: «والحق أن تلك النخبوية الفكرية السائدة هي ما يضاعف الشعور بالانزعاج، ليس فقط بسبب ما أراه من ضعف العلاقة بين سياسات السادات وأغاني عدوية، بل أيضاً صدف أني أحب أغاني عدوية ومعانيها المفككة غير المترابطة».

كما جعلني تساؤل الكاتب جمعة عن معنى كلمات الأغنية في تلك الفترة أن ألوذ بـ«غول» لأعرف حكايتها، وبالنسبة لي زادت الحكاية جمالية هذه الأغنية، التي انبثق شعرها من حوار عفوي في شقة شقيقته أثناء لعب (الطاولة). وصِف هذا النوع من الشعر النثري في النقد الغربي، بـ«الدادائية»، حيث القصيدة تكتب من حوارات عفوية غير مترابطة تجرى في المقاهي أو الشارع أو البيت، وحسب ما ورد في ويكيبيديا «دادا بالإنجليزية: Dada‏، هي حركة ثقافية انطلقت من زيوريخ (سويسرا)، أثناء الحرب العالمية الأولى، كنوع من معاداة الحرب، بعيداً عن المجال السياسي، وإنما من خلال محاربة الفن السائد. يطلق عليها أيضاً (الدادائية)، أثرت الحركة على كل ما له علاقة بالفنون البصرية، الأدب، الشعر، الفن الفوتوغرافي، نظريات الفن، المسرح، والتصميم».

«واعتبر مؤرخو الفن فناني الحركة الدادئية «أنهم ظاهرة انفجرت في وجه الأزمات السياسية، والاقتصادية، والأخلاقية، وأعتبروها المنقذ الذي سيبدد كل هذه المشاكل». لقد كان العقل والمنطق هو الذي جر الناس إلى أهوال الحرب، وكان الشكل الوحيد للخلاص هو رفض كل ما هو تقليدي وتبني منطق الفوضى والرفض.». أما فيما يخص أصل كلمة «دادا»، فهناك رواية تقول إن الحركة عندما اجتمعت في زيورخ أرادت أن تختار لها اسماً، فوقعت على كلمة «دادا»، التي تستخدم عند الأطفال في فرنسا للشيء المفضل. ورواية أخرى تقول إن كلمة دادا معناها الحصان الخشبي المتأرجح الذي يستخدمه الأطفال للعب.

أما حكاية أغنية «السح اندح أمبو»، التي هي أيضاً تتعلق بحالة طفلية، وكما يذكر عدوية في مقابلة إذاعية معه، «فقد بدأت عندما كان ابن شقيقة عدوية يبكي على الأرض، وكانت منشغلة عنه في المطبخ، وكان هو وزوج شقيقته يلعبان (الطاولة)، وكانت تأتي بين لحظة وأخرى من المطبخ على عجل لتلاعبه وتلاطفه على أنغام إيقاعية بفرقعة أصابع يديها فتقول له: السح، الدح..، ثم يرد عليها زوجها مبتسماً ابتسامة عريضة في وجه ابنه قائلاً: إمبوووو، ثم يعيد الزوجان المشهد على إيقاعات التصفيق مع بعضهما: السح الدح.. إمبووو» وتابع عدوية: «وفي إحدى المرات زاد الطفل من صراخة فصاح زوج شقيقته قائلاً لزوجته: ماتشيلي الواد م الأرض، الواد عطشان اسقيه.! عندها غضب عدوية أيضاً وهو يمسك الطفل، وقال: ياعيني الواد بيعيط، فردت عليه بصرخة قوية قائلة: إدي الواد لابوه».

هل كان يعي عدوية وشقيقته وصهره كل ما قيل حيال مذهب الدادائية الفني، لا أعتقد، لكن للفنان مصادر إلهامه الغامضة، أو لحظات غضبه من ظاهرة ما يعبر عنها فنياً وبشكل عفوي، ثم يأتي محللو ونقاد الظاهرة ليضعوا لها تنظيراً يضعها في سياق فني أو ثوري. قد ينطبق الأمر نفسه على أغنية غناها مطرب شعبي آخر تزدريه الدوائر الرسمية المحافظة، شعبان عبدالرحيم، حين غنى «أنا بكره إسرائيل» التي انتشرت كالنار في الهشيم في أرجاء السمع العربي ـ رغم خلوها من كل شروط الفن التقليدية ـ ومازالت تنتشر في أرجاء الشبكة العنكبوتية مرفوقة بتعليقات تعتبره بطلاً. عبارة «أنا بكره إسرائيل» التي افتقدها الوجدان العربي، هي السحر الذي جعل الفنان المكوجي الأمي نجماً خلال أيام محدودة، وجعلته مادة للتهكم لدى بعض الإعلاميين الذين أجروا معه حوارات عدة، فقط ليسخروا منه، ويشفوا غليل المحافظين الذين مازالوا في أسر الحنين للفن المنضبط، الذي بعض فنانيه غلفوا الهزائم المتتابعة والإخفاقات بورق براق، وسوقوها على أساس أنها انتصارات لم نكن نعلم بها.

وبالعودة إلى كتاب «العرب وما بعد الحداثة» ينقل الككلي في مقالته: «الرواية العربية المعاصرة وما بعد الحداثة»، المنشورة بـ«بوابة الوسط»، عن ماري كلاجز قولها في كتابها «ما بعد الحداثة»: «فبما أن العالم، من وجهة نظر ما بعد الحداثة، خالٍ من المعنى، فينبغي، إذن، ألا نزعم أنه يمكن أن يكون للفن معنى. عليه، فلنلعب مع اللامعنى». وفي جميع الأحوال مازلت حين أدخل القاهرة لا يتداعى إلى أذني سوى أغنية عدوية، كلمات أحمد أبو عتمان ولحن هاني شنودة:
زحمة يا دنيا زحمة ** زحمة وتاهوا الحبايب
زحمة ولا عادشي رحمة ** مولد وصاحبه غايب
آجي من هنا زحمة ** وأروح هنا زحمة
هنا أو هنا زحمة..
لا شيء دون معنى شرط أن لا يكون هناك أي نوع من الوصاية على (المعنى).