Atwasat

شيء من سيرة أبي (2 - 2)

أحمد الفيتوري الثلاثاء 20 سبتمبر 2022, 11:09 صباحا
أحمد الفيتوري

يدعى الرايس محمد، لأنه خباز محترف لمهنة مستجدة في ليبيا، تعلم إتقان مهنته من إيطالي عمل معه وأعجبه ووثق فيه. من مهنة يندر محترفوها جمع المال، ما جعله يفكر في الزواج ولم يتجاوز السادسة عشر، أراد امرأة تنهض ببيتهم وتهتم بالعجوزين أمه وأبيه، وطفلهما الصغير. لم يفكر بالمرة، لما طرح على صديقه الأقرب الزواج من أخته، عندئذٍ أكثر شباب زليتن فقراء والجوع سيد الموقف. خطب أخت الصديق، من ذهب معه، على جمل استعاره من قريب، إلى مدينة طرابلس الحاضرة، ليشتري لعروسه حاجيات العرس، كما لم يفعل أحد.

بدا لي أني أنسج قصة من بنات الخيال، لكن ابن خالته، علي صديقه من في عمره ومن يشاركه معاقرة الخمر، ذكر في جلسة عابرة نتفاً من القصة المقبورة، ما يشبه أسطورة، فما فيها غير مترابط ولا معقول، وأنه حقاً انتحال لقصة النبي يوسف. لهذا وغيره لم أعمل على أن ألم بتفاصيل مختلقة، دون داعٍ ولا دوافع ملحة. وفي مرة عند المراهقة، ركبت حافلة كالمعتاد، حيث انتابني خوف وتوجس من شاب يتبعني بل يترصدني، ويتفحص وجهي بشكل وقح. جزرته ثم نزلت في محطة غير مبتغاي، وقد حدث هذا مرة ثانية، لكنني انتبهت في آخر المشوار، في المرة الثالثة قررت مواجهته، فتسلل ولم أفطن له أنه خارج الحافلة، ما تحركت مسرعة.

لم أدفع بشكل واضح للتنقيب في طبقات سيرة أبي، من يظن أن لا سيرة له، كما كل البشر الذين من عامة الناس، فلا يرى ثمة ما يمكن سرده، لأن ما حدث يحدث للبشر من الميلاد إلى اللحد. ولم تنفع مثابراتي أن يحكي عن أناه، فهو كما أهل البلاد، من عندما يذكرون كلمة أنا، يستعوذون من المفردة: أنا والعياذ بالله من قولة أنا.

فأبي الخباز الأمي كتوم بالطبع، وعنده ذكر أفعال النفس، الطيب منها تفاخر لا يصح لرجل، والخبيث يحق عليه الحث الإسلامي: إن بليتم فاستتروا. ومرة تجرأت وألمحت له أننا جميعاً تحت الثياب عراة، وأن العاري من غطى وجهه كمن لم يتعرَ، فضحك مما أقصد وسكت عن الكلام المباح.

بيني ونفسي ملت لحكمة أبي، فما قرأت مرة سيرة أحد، أو استمعت لسارد، وحتى ما شاهدته على الشاشتين الفضية والصغيرة، كلما فكرت فيه أجده كما المختارات الشعرية أو الموسيقية، فالمختار يختار ما يستهويه، وراوي السيرة المدونة أم الشفاهية، في مقام المختار، أو المونتير في الأشرطة السينمائية والتلفزيونية.

لم يمنعني هذا من محبة الشريط، وأقول الصدق المونتاج كما المختارات في الأغلب ما يحبذني فيما أقرأ أو أشاهد: الجزء ما لم أكمله من القصة المقبورة، هو القصة. وليس القص إلا كالحياة سبيلا للإقناع، فالحياة غير معقولة، حتى حياة نملة سيدنا سليمان أو حمامة سيدنا نوح، فما بالك بحياة أبي التي لم ير فيها ما يروى، لم يروِ حتى مرة واحدة قصة هجرته، وهومن يؤرخ حياته بالتاريخ الهجري الإسلامي.

لماذا هجر أبي زليتن، متى نزل بنغازي؟، لأن الإنسان كالطائر كائن مهاجر قال أبي. لكن من جاء من زليتن يتبعه، كابن خالته على قال: إن محمد، يقصد أبي، وأبناء عمه، غاظهم أن ابنة عمهم الآخر، بعد موت زوجها، أصبحت كالرجال، تحمل بندقية في السانية لتحميها من اللصوص، وتدخل السوق لتبيع محصولها من خضروات وحبوب. لهذا كمنوا لها، بعد أن مرغت رؤوسهم بالعار، ثم أطلق ثلاثتهم رصاصهم حتى أردوها قتيلة. هذا ما يشاع، ولعله ما دفع ابنها لملاحقتك في الحافلة، فلا أظنه جاء من زليتن إلا بواجب الانتقام.

تلاحق أبي حقائق كالكذب، ما يعطيها بالظهر، باعتبارها كذباً يشبه الحقائق. لم يهتم للحظة بما يدور حوله من قصص، حتى ظننت أنه بتصرفه هذا يصب الزيت على النار، وأن هذه اللعبة تروق له. ولم أتيقن مرة بأن ما حدث لأبي قد حدث، بل إنه شخصية تشع بالمتناقضات، ما تشعرك، بل تؤكد لك أن هكذا هم البشر، وأنهم لغز كما لغز الحياة.

وما عرفته عن أبي، ما نرى من جبل الثلج، هذا النزر اليسير جعل فضولي يبهت مع الزمن، حتى مات، بل وبعد ذلك، آمنت أننا أبناء الحياة، وأن التفاصيل زبد البحر.
زبد البحر كثيراً ما جهدت أن ألمه بيدي الصغيرتين، عند الشاطئ مع هدير الموج، حيث بيتنا بحي الصابري.

أبي لحظتها يصطاد السمك، رفقة خالي محمد جاره وصديقه، من مع العمر أمسى صديقي، ولأنه راوٍ ممتع وصاحب خيال خصب، لملمت منه زبد بحر

أبي، من معجب به ويحبه كثيراً. عند خروجي من سجن دام عقداً من الزمان، علق في حبور: قلت إنك مثل أبيك، الخارج من الجب لا محالة. فهل سجن أبي في سالف أيامه، هل ارتكب ما يعيبه ولهذا داراه عن نفسه. بطبيعة الحال وقد قضيت سنوات عشرا في السجن، بادعاء أني انتميت إلى حزب مناهض للسلطة الغاشمة، كنت أعرف معاناة كهذه، لكن ليس عند أبي أي معاناة مشابهة.

المجهول كما البذرة المدفونة فقطرة ماء توقظه. أبي الخباز بات تاجراً، بعد أن اكتسح النفط البلاد، وأصبح الوقود بدل الحطب، ما كان وقود مخبزنا. عبث البترول بحياتنا، فجعل التحولات تصيب كل شيء قديم وحديث. المهن الحرفية التقليدية ماتت، والمخابز المستحدثة في معيش الليبيين تطورت.

فمن ملاحقة أبي في المخبز، وجدت نفسى حارس دكان، في الصبح قبل أن أذهب للمدرسة، وعند القيلولة لما يغادر أبي للغداء والراحة، وما تعلمت في المدرسة قليل أمام ما علمني الدكان.

كثيراً ما منحني المال لشراء مجلات الأطفال ما أحب، وزاد ثمن مجلات وجرائد، يهوى أن أقرأها له، كمجلة «المصور» وجريدة «الأهرام» المصرية، ومجلة «ليبيا الحديثة» وجريدة «الحقيقة» الليبيتين. يتصفح ما أجلب له، يراجع الصور بدقة، ثم يطلب قراءة مواضيع، يحدس أنها مهمة بالنسبة له، عادة ما تكون في مجال السياسة، ما يتابع أخبارها عبر إذاعة لندن العربية.