Atwasat

التنظيمات السياسية في ليبيا (1952- 1969) (5)

سالم الكبتي الأربعاء 14 سبتمبر 2022, 10:48 صباحا
سالم الكبتي

كانت البلاد بالفعل مهيأة، مع وجود هذا الفراغ السياسي الهائل، لأن يملأ ولا يظل هكذا يتفرج عليه. لا بد من حدوث عمل يغير الرتابة الموجودة رغم التخلف والفقر والأمية التي تعيشها البلاد. ولاحقا ظل الخطاب القومي الجارف والحركات السياسية في المنطقة القريبة منا تتكفل بتعبئة هذا الفراغ. وصلت الشظايا إلينا. ظهرت المزيد من الإرهاصات والتأثرات بالتيارات السياسية والفكرية التي ترج المنطقة رجا بكاملها ودون استثناء إلا في ما ندر.

تغيير يحدث بوضوح غداة انتهاء الحرب العالمية الثانية وغداة انتصار الحركات الوطنية أو بروزها.

ونحن كنا جاهزين تماما لاستقبالها في الطريق المؤدي إلينا من كل الاتجاهات. وكان هذا الطريق حقيقة معبدأ أمام هذه التيارات بكل سهولة ويسر. لم تكن ثمة أحجار أو صخور أو ألغام. البلاد جاهزة وأجيالها التي تستقبل نهاراتها كانت كذلك أيضا. حدث هذا رغم أن ما وصلنا كان بعيدا في برامجه وعقائده كل البعد عن واقعنا وعن حال بلادنا المتناهية البساطة والمترامية الأطراف بالمعنى الصحيح للكلمة.

لم تكن الحركات والتيارات السياسية موغلة في القدم تاريخيا منذ نشأتها بل إن بعضها لامس أعوام مخاض الاستقلال المرتقب لليبيا. في الإسماعيلية بمصر كان حسن البنا يؤسس لحركة الأخوان المسلمين بالقرب من القناة عام 1928. وفي ربيع 1947 انطلقت مع إيقاعات الدبكة في الشام دقات طبول حزب البعث. ميشيل عفلق وصلاح البيطار وأكرم الحوراني ومن بعيد تنظيرات زكي الأرسوزي.

ردود أفعال على حال الأمة المتردي وضياع الأسكندرونة.. اللواء الذي استلبته تركيا وماتزال. وفي بيروت عند أعتاب الجامعة الأمريكية وفي رحاب مطعم فيصل يؤسس جورج حبش وأحمد الخطيب وجهاد ضاحي وغيرهم حركة القوميين العرب عام 1951 ردا على نكبة فلسطين وخيانة الزعماء العرب مع الوعيد بتصفيتهم وإنهائهم من الوجود.

الحركة كانت امتدادا طبيعيا للنشاط القومي السابق من خلال العروة الوثقى والنادي العربي وكتائب الفداء.

تيارات وأحزاب وحركات تهز شوارع المنطقة بالانفجارات والمظاهرات والاغتيالات والخطب. يختلف الخطاب في إحياء الأمة بالإسلام والدعوة إليه والتبشير بالنهوض بالقومية العربية والوحدة والاشتراكية والحرية. شعارات جديدة لم يألفها المواطن من قبل وظلت صداها يرن في أذنيه ويرددها صباحا مساء مع الأناشيد والإذاعات والحماس الذي لا يتوقف.

ذلك عصر مضى اختلط فيه اليمين باليسار وتشابكت الآراء وتقاطعت ولم تلتق على الإطلاق فيما دخل العسكر على الخط في مرحلة تالية وصارت الأمة تعاني من النخب المثقفة والعسكر الذين برعوا في ركل بوابات الإذاعات مع نسائم الفجر الباكر.
وبهذا الذي ذكرناه مختصرا ويعرفه الجميع فإننا على هذا النسق لم نكن استثناء مما يدور في المنطقة.

أصبحنا صدى لذلك كله وكان من الضروري أن يستغرق بعضنا في هموم الأمة ويضع حلولا لمشاكلها وأزماتها بعيدا عن مشاكل الواقع الليبي المتخلف. صورة المنطقة هموما كانت في أواخر الأربعينيات ثم الخمسينيات وبعدها الستينيات مفعمة بهذا (النضال). ومن لم يتأثر بما يجري اعتبر سلبيا أو من العائشين في عالم آخر. صورة مكثفة لحركة تتدفق من الشعوب وجماهيرها مثل النهر الغاضب بعد سكون وتهدر بأصواتها حتى تبح حناجرها.

كان لا بد لليبيا نتيجة للفراغ أن يؤثر فيها هذا الهدير الصاخب. ولم يكن ثمة سبيل أو خطة أو منهج أو حيلة لردم هذا الفراغ بسياج من الوطنية والانتماء الحقيقي.

وقعت ليبيا ضحية أو فريسة لهذا الهياج وكان من الطبيعي جدا أن يحدث ذلك بسهولة بالغة. انشغلت الجماهير عن واقعها ببريق الخطاب القادم بقوة واستلبها تماما وشدها مع أذنيها دون أي فعل مقابل.

ولاحت مع الوقت بوادر التردد والخوف من السلطة من حدوث المزيد من الشروخ في الواقع، فالظروف اختلفت والأجيال أيضا اختلفت ولم تعد بحاجة إلى من يذكرها بتاريخها وتضحيات أجدادها بل رأى بعضها في الاستقلال الذي تحقق استقلالا كاذبا وأن ليبيا محكومة باحتلال القواعد وعوامل الرجعية والعمالة!

والواقع أن أولى الحركات والتنظيمات حلت بالبلاد قبيل استقلالها بعامين وترافق ظهورها على استحياء مع وجود التنظيمات المحلية الأخرى وكان ذلك يعتبر أول اتصال تنظيمي يتأثر بالخارج في الفترة المعاصرة. في التاسع من يوليو 1949.

وكان القيظ لاهبا وشهر رمضان بأيامه ولياليه يعم المدينة وما حولها لجأ إلى بنغازي ثلاثة من شبان جماعة الأخوان المسلمين. وصلوا بعد معاناة واجتياز للحدود الشرقية عن طريق التسلل والتهريب وقضاء ليلة في درنة وهم: محمود يونس الشربيني (المحامي) وعزالدين إبراهيم مصطفى (الطالب بمرحلة الليسانس بجامعة فؤاد) ومحمد جلال الدين سعده (الطالب بنفس المرحلة والجامعة) كانوا شبابا متقاربين في العمر من مواليد العشرينيات الماضية وطرقوا باب الأمير إدريس في قصر المنار، كان يستعد للسفر باكرا لزيارة لندن.

لم تكن له بهم سابق معرفة ولم يكن هو في ذات الوقت على علاقة بنهج الأخوان المسلمين. كانت ليبيا تعيش إسلاما وسطيا معتدلا وكان هو سليل طريقة دينية إصلاحية تتوخى التربية وتهذيب النفوس وصقل العقول وإعداد الرجال وبناء المجتمع بالكلمة الحسنة والتعايش والاحترام.

قدموا له طلبا للجوء من ورقتين كتبها بخط جميل عزالدين إبراهيم وبينوا عبر الطلب مايلي: (ياسمو الأمير. في غرة هذا الشهر الذي تتفتح فيه أبواب الجنان وفي هذه الأرض المباركة بأذن ربها المتشرفة بالدعوة السنوسية الحقة وفي رحاب أمير برقة المستقلة ذي الغيرة الدينية والأنفة العربية والروح الإنسانية العالية.. في هذه الأوضاع مجتمعة يستقر بنا المقام فنلقي عصا التسيار بعد سفر طويل شاق ونحن أشد مانكون أملا في تحقيق ما ابتغيناه وسعينا إلى إدراكه.

ياصاحب السمو: نحن ثلاثة من شباب هيئة الأخوان المسلمين بمصر الشقيقة أصابنا من الاضطهاد والعسف ما أصاب كل ما* يمت بصلة إلى هذه الجماعة التي لم يكن لها من مقصد إلا إقامة (الدولة) على قواعد (الدين) بتطبيق الشريعة الإسلامية الغراء فلم يكن أمامنا يا صاحب السمو وقد اشتدت بنا حركة الظلم والتنكيل وأن شر الرعاء الحطمه..

إلا أن نهاجر من بلدنا إلى بلد نستطيع العيش فيه آمنين مطمئنين نعبد الله مخلصين له الدين حنفاء فاتجهنا نحو سموكم وكلنا أمل أننا سنجد في رحابكم الطمأنينة خاصة وقد أجمع القوم من حضر وبادية أننا لن نجد الأمان إلا في كنف سموكم. يا صحب السمو: حقيقة أننا متهمون وأن الحكومة جادة في البحث عنا ولو كنا مطمئنين إلى أن العدالة في مصر تأخذ مجراها وأن أهواء السلطة الحاكمة لما تحملنا كل هذا السفر الطويل الشاق.

أيها الأمير العربي المسلم. لقد جئنا إليكم نطلب الأمان في وقت عز فيه على الفرد أن يجد الطمأنينة على حياته ونفسه إلا في كنف سموكم ..).

اهتم الأمير قبل سفره المرتقب في اليوم التالي لمجئيهم إليه بالطلب اهتماما بالغا وشدد في أوامره وتعليماته على حمايتهم وأكد على أن تكون: (الحراسة عليهم كافية وأن يكون المسؤول عنهم في هذه الحراسة ضابط أمين ومأمون خوفا من أن تحصل فيهم هتيكة). وبهذه الطريقة ووفق على لجوئهم واعتبروا ضيوفا على الأمير في قصر المنار.

كانوا من الشباب الناشطين في الجماعة بالقاهرة التي ظلت تشهد المزيد من أعمال العنف والاغتيال من قبل الجهاز السري للجماعة. لم يشتركوا في قتل الخازندار أو النقراشي باشا كما تردد ولكن تهمتهم كانت واضحة وتتعلق بالأوكار وتخزين الأسلحة في بعض أحياء القاهرة. وفي بنغازي القائظة بدأوا تحركاتهم وعلاقاتهم ووجدوا ترحيبا بهم من الكثيرين خاصة من الشباب مثلهم الذين استهوتهم أفكارهم ومنهجهم. في العام السابق 1948 كان مجموعة من شباب بنغازي يترأسهم إبراهيم حماد شكلوا مجموعة لمحاربة حانات الخمر ومهاجمتها وبيوت البغاء ومحلات القمار..

بقى الأخوان الثلاثة في بنغازي ثلاث سنوات إلى يوليو 1952. وذكر لي السيد عز الدين بنفسه في العام 2008 حيث كان يقيم في أبوظبي ويوالي تجهيز مذكراته تلك الأيام أنه تم جمع الشباب في بنغازي ليس على أساس (تنظيم سياسي) وإنما (على طريقة ومنهج تربوي إصلاحي ).

هذا النشاط نجح تماما نتيجة للفراغ الحاصل إلى درجة أن جمعية عمر المختار تحسست من ذلك لأن أغلب شبابها وهم كثر بدأوا في التحلق حول أولئك اللاجئين الثلاثة.. وهذه طبيعة الأشياء!
* هكذا في الأصل، والصحيح "من".