Atwasat

شيء من سيرة أبي (1 - 2)

أحمد الفيتوري الثلاثاء 13 سبتمبر 2022, 02:09 مساء
أحمد الفيتوري

خرج أبي من الجب
قالوا أنه يفتري على الله كذبا، ويتمثل سيدنا يوسف. وإن لم يصدقه أحد كان يعرف أنه صادق، لكن يحق لأي أحد أن يرى روايته فرية، كذبة في حجم انتحال قصة نبي، لكن ماذا يفعل، إذا ما قد حدث، حدث له. عزم النفس على الرحيل، وأن يتركهم في غيهم يعمهون، ليكنى بصاحب الفرية الكبرى، الكذاب من ليس كمثله أحد. لكنَّ عهدا، أبرمه مع نفسه أمام ربّ العباد، عليه أن يفي به.

فتزوجها ثم مكث معها أشهرا، حبلت منه وفي غيابه أنجبت بنتا، كانت مولوده الأول، من ماتت بعد سنوات دون أن يراها. بعد ذلك مات ابنه البكر، من زوجته الثانية، محترقا في القماط، لما وقعت عليه شمعة، حيث لم يكن الكهرباء قد شاع في المدينة أين عاش، كانت أم الطفل، أمي في ما بعد، قد خرجت إلى حضيرة الحيوانات، ترضع حملا عافته أمه.

مثلما عزم على الرحيل، عزم على أن يدفن قصته في قلبه، ماتت القصة كما ماتت ابنته، لكن القلب جرح جرحا لم يدمل، فيما كان عليه أن يداري الدمل، عن نفسه قبل الآخرين. في المدينة التي رحل إليها وعاش فيها، رافقته قصة ثانية من مدينته مسقط رأسه، التي لحق به بعض من أهاليها، وهم من أهله أيضا. رغم حرصه على الكتمان، فقد تداول أولئك القصة الثانية، لكن لم ينبش أحد بالمرة قصته المقبورة، ما عدت فرية، لقد حمد ربه أن عدوها كذلك، وأن الله قد محا ما أراده من ذاكرتهم.

لم تكن سرا فالسر يسر به لأحد، بل حقيقة كالكذب لا تحتمل الذكرى، لهذا عدها قصته المقبورة، فلم تكن من سيرته. حتى ولدت وكبرت فكنت ابنه البكر الحي، فأخذت أحفر وأستكشف سيرة أبي، وأعرف ما لم يعد نفسه يصدق. كنت كما نباش قبور، أو أنتربولجي يستحثني المجهول على أن أجعله المعلوم. وما يرافق الطفولة السؤال، ما لم يتركني البتة.

فشددته كما العروة الوثقي، ثم أحبته نفسي، ماذا حدث لماذا وكيف وأين و...و...و. ولعل هذا حجر الأساس، المبنى والمعنى لنفسي، الشغوفة منذ الصبا بالصحافة، ففي السنة الخامسة الإبتدائية بالمدرسة، أصدرت جريدتي الأولى، حينها لم أتعد الحادية عشرة من عمري، وعند السادسة عشرنشرت أول مقالة لي، بصحيفة يومية شهيرة.

لماذا هجر أبي زليتن، متى نزل بنغازي؟ كيف تسنى له أن يترك أما عجوزا رفقة أبيه الأعمى، من اضطرهما المحلُ، الجفاف القاسي فالحرب، أن يمنحا طفلهما الثاني لعائلة صديقة لا أطفال لها. عمي من سيحمل اسم تلك الأسرة، فيدوخ الفرق بين الاسمين من يعرفهما، كيف لأخين شقيقين أن يحملا لقبا متباينا؟.

الزمن، ما فرق بينهما، جمعهما، حتى بات عمي كما ابن لأبي، ومن هذا عاش عمي، من لا يكبرني كثيرا، يغار مني، فلم يقبل مرة أني ابن أخيه.

كما لم يكن سرا فيشاع، فإن ما حدث مع أبي، جعله متيما بالحياة والعبث بها، فأصبح الذكر من الدنيا أنثاه. غير أمي تزوج ثانية، ورغم أنه أمي، ولم يسمع في تقديري بالشاعرالإنجليزي اللورد بايرون، فإن أمنية حياته، كقول ذا الشاعر: ليت لكل نساء الأرض ثغرا واحدا لقبلته وارتحت. لم يكن ورعا بل صادقا مع نفسه، فمارس كل ما أحبت هذه النفس.

من هذا أيضا حب الذرية، فصار لديه العديد من الصبيان والبنات من الأمرأتين، أحب بناته فلم تكن عنده أخوات، كما رعى الإبناء فليس له من الدنيا غير أخ مفرد.

في حلم طائش من أحلام اليقظة، كتبت سيناريو فلم أبي، وفيه تصورت طريقة للتسل في الذاكرة المثقوبة لأبي، من شنبه عبارة عن تقليد لهتلر دون أن يعرف. سألته ذات مرة: كيف خطر في باله أن يكون له شنب كهذا؟، تنحنح واتكأ على مخداته، ثم نظر بتمعن للتلفزيون، ما كان يعرض شريطا وثائقيا، عن الحرب العالمية الثانية في شمال أفريقيا، بدا كسرحان في الفلم المعروض، غير أنه غاب عني لوقت، مما تركني أنغمس في الفرجة.

بغتة صرخ: حق، والله إلا حق، شناب هتلر اللي كنا والعين به، علقت: غير واعين. وكد أبي أنه لا يظن، شاهد مرة في شبابه، حتى صورة لهتلر. طرحت له تأويلي، أن يكون المتعلمون في المدن، هم من أشاعوا شنب هتلر، وأن الآخرين قلدوا ما لا يعرفون. ودون أن يعرف أخذت أتسلل إلى ذاكرته، كبناء هاو مرمما ما تداعى منها، هكذا تسني لي، من خلال مطالعاتي السطحية في علم النفس، أن أكون الطبيب المداوي، لذاكرة رجل يهتم بالقضايا العامة لكن دون ثقافة وعلم، رجل يعشق مزمزة الحياة لا تسجيل تفاصيلها، والاحتفاظ بوقائعها المشحونة غير قادر على بالفجائع، مثلما الحرب ونكباتها.