Atwasat

الهروب إلى الماضي

علي اعبيد الخميس 08 سبتمبر 2022, 01:31 مساء
علي اعبيد

يقول علماء الأنثروبولوجيا الثقافية، إن الثقافة الصينية تعتبر أقدم ثقافة حيّة في التاريخ، استمر تواصلها لأكثر من ثلاثة آلاف سنة. وعلى الرغم من أن الحضارة الفرعونية سابقة للحضارة الصينية؛ فإن جذوتها قد انطفأت مع مطلع الألفية الأولى للميلاد، وانقطع تواصلها وتلاشت لغتها، وتحولت إلى مجرد آثار يفك طلاسمها المتخصصون في الآثار.

بينما واصلت الثقافة الصينية حيويتها ووجودها إلى اليوم.

الصينيون رغم هذا التواصل التاريخي المميز لا يبدون الحنين والشوق إلى الماضي الذي تبديه شعوب أخرى. وعلى العكس من ذلك يرنون باستمرار إلى المستقبل، ولا يتورعون عن قبول ما يفرضه الانتقال إلى المستقبل من شروط التغيير في عاداتهم وتقاليدهم ومنظومة القيم لديهم، ولا يستنكفون من الاستفادة من تجارب الشعوب التي سبقتهم في مضمار العلم والحضارة، ليحققوا ما يطمحون إليه من تقدم ورقي.

وحدهم العرب والمسلمون يعشقون الماضي عشقاً محموماً يحوله في مخيلتهم إلى جنة الله الغابرة. كل الفرق الإسلامية بخصوماتها المتبادلة، وتناقضاتها الغريبة ترى أن العودة إلى الماضي هي طريق الخلاص من شرور الحاضر والمستقبل. شعار الإسلام هو الحل رفعه الإخوان قبل ما يقارب القرن، وصدقت عليه كل الفرق الأخرى، بما في ذلك فرق التطرف مثل القاعدة وداعش ومن على شاكلتهما.

لم يسألوا أنفسهم كيف، لأن ذلك مدعاة للتفكير ومواجهة الواقع، وبالتأكيد، الخروج عن الوصفات التراثية الجاهزة.

المهم لديهم هو أن العودة للماضي تعني صلاح الدين والدنيا، رغم أن أبسط قراءة للتاريخ تبين بوضوح بشاعة الاستبداد وجور السلاطين، وحجم الصراع الدموي على السلطة في الدول الإسلامية جميعها، بداية من الدولة الأموية وانتهاء بالدولة العثمانية، مروراً بالعباسيين والفاطميين والمرابطين والموحدين والحفصيين وبكل ما حفل التاريخ من ممالك وسلاطين حكموا باسم الإسلام.

ولعل الاستثناء الوحيد هو دولة الرسول وخلفائه الراشدين التي لم تستمر لأكثر من أربعين عاماً.

على الصعيد الليبي، يعتقد بعض الليبيين أن مشاكل ليبيا المزمنة لا يمكن حلها إلا بالعودة إلى المملكة الليبية، باعتبار أن الحركة السنوسية كان لها الدور الأكبر في حركة الجهاد وفي مرحلة تأسيس الدولة، وأنها بذلك تملك الشرعية التاريخية، التي لا يملكها غيرها في قيادة المجتمع الليبي، مثلما كانت قبل نحو قرنين من الزمن في زوايا الجبل الأخضر.

ينسى هؤلاء أن جل الليبيين اليوم ولدوا وترعرعوا في زمن غير زمن المملكة الليبية، وأنهم يطمحون إلى أنظمة حكم تتجاوز ما يستطيع النظام الملكي تقديمه، وهم يرون بأم أعينهم أن ما يعرف بالمملكة الدستورية لا وجود لها في بلاد العرب؛ فكل ممالك العرب مجرد إقطاعيات عائلية مستبدة.

بل والأكثر من ذلك أن الممالك الدستورية العريقة في أوروبا أصبحت تتعرض لضغوط شعبية قوية من أجل التغيير إلى النظام الجمهوري مثل بريطانيا وإسبانيا وهولندا.

مشايعو النظام السابق الذين يعرفون أنفسهم بالخضر يصرون في أغلبيتهم الغالبة على أن أفضل طريق لحل مشاكل ليبيا المتفاقمة هو العودة إلى ما كانت عليه قبل 2011، وأن المؤتمرات الشعبية واللجان الشعبية، حسب رأيهم، هي الوسيلة الوحيدة لتحقيق طموح الليبيين في دولة قوية متقدمة، ناسين كل تلك الإخفاقات وحالات الفشل الذريع على كل الصعد؛ السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية، وأن بقاء النظام السابق في السلطة

لأربعين عاماً يعود بالدرجة الأولى لاستعمال منطق الجبر والعسف، وليس إجماع الشعب ورضاه.

هنا يبرز سؤال محوري يطرح نفسه: ما هو السر في ظاهرة الهروب إلى الماضي..؟

لا شك أن الإجابة مركبة وتتطلب تحليلاً نفسياً واجتماعياً شاملاً وعميقاً، مع ذلك يمكن القول أن الهاربين إلى الماضي يشعرون بخوف حقيقي من المستقبل وتحدياته، ويعترفون ضمناً بعدم قدرتهم على مواجهة هذه التحديات، دون أن يعلنوا ذلك طبعاً. والأسوأ هو استنكافهم عن ممارسة التفكير العقلاني العميق في واقعهم المتأزم، وتعودهم المرضي على استحضار الوصفات العلاجية الجاهزة من الأزمنة الغابرة بصرف النظر عن فعاليتها من عدمها.

كثيرون يرددون عبارة الزمن «الجميل»، وهم يعرفون أن الزمن الذي يشيرون إليه، وبمختلف المعايير، أبعد ما يكون عن الجمال. ولعل كون الماضي جامداً ومحنطاً ولا يتغير فيه شيء، يعطي الانطباع بأنه آمن ولا يحفل بالمفاجآت التي يمكن أن يحفل بها الحاضر والمستقبل، وبذلك فهو لا يتطلب الحذر والحيطة.

الهروب من مواجهة المستقبل ومفاجآته، والاطمئنان إلى الماضي وأمنه يخلق مع الوقت ما يعرف بالحنين إلى الماضي أو النوستالجيا، التي تتحول إلى ظاهرة مرضية تمنع التفكير والتدبير وتديم العجز والقصور.