Atwasat

رسالة من لندن (2)

جمعة بوكليب الأحد 16 فبراير 2014, 06:16 مساء
جمعة بوكليب

في العام الأكاديمي 1937-1974 دخلت مبنى كلية التربية بجامعة طرابلس لأول مرة، طالبًا بالسنة الأولى بقسم اللغة الإنجليزية. كنتُ شابًا خجولاً، في بداية العشرينات من عمري، طويلاً ونحيلاً ونوافذ قلبي مشرعة على جهات الدنيا الأربع. وكنت، دون أن يراني أحد، أو يعلم بي أحد، أطير بلا أجنحة من شدة تلهف طموحي النهم لالتهام كل ما كان بوسع الحياة، آنذاك، أن تضعه على مائدتي من متع. وكنت، من شدة فرحتي وغفلتي، دون أن أدري، ألقي بنفسي، عمدًا، في دائرة فخاخ أسئلة ملتهبة، تقود إلى طريق "ترفع وما تردش"!

كانت كلية التربية جزءًا من عدة كليات تضمها جامعة طرابلس، آنذاك، وكلها، باستثناء كلية التربية، تدرّس العلوم التطبيقية. أروقة وساحة وفصول وصالات كلية التربية، وبقية الكليات الأخرى، جمعتني، لأول مرّة، بطلاب ذكور وإناث، جاءوا، مثلي، من جميع أنحاء ليبيا للدراسة الجامعية، الأمر الذي جعلني أحس بليبيتي بشكل لم يكن له سابق من قبل، حتى إنني كنت أتمنى أن يكون اليوم الدراسي من دون نهاية!

عالم جميل انفتح أمام قلبي وعقلي وروحي وأحلامي وعلاقتي بالأدب والفن والإبداع والسياسة وأيضًا التقائي الحميم بالأنوثة. هناك، في مبنى كلية التربية القديمة، نبض قلبي بأولى نبضات الحب، وهناك، في ذلك المبنى الموروث من العهد الإيطالي، بدأت لواعج العشق تعرف طريقها إليّ. وفي تلك المنطقة المتميزة، بخضرتها وحيويتها الشابة، في طرابلس، وأخذت علاقتي بالكتابة والفن والإبداع والسياسة انعطافة مهمة، وبدأت ليبيا /الوطن تتشكل، بوعي، في عقلي ووجداني.

ذات نهار، وبينما كنتُ، في ساحة الكلية، أتجاذب حديثًا مع بعض الزملاء، توقف زميل من بنغازي وانضم إلينا مشاركًا في الحديث. لاحظت أنه يحمل كتابًا في يده اسمه "موسم الحكايات" لكاتب ليبي لم أسمع به شخصيًا من قبل اسمه خليفة الفاخري. استأذنت من زميلي في طلب الكتاب وتصفحته، ثم طلبت منه إعارته لي بضعة أيام، فوافق الزميل مشكورًا. ما زلت، إلى يوم الناس هذا، أذكر دهشتي الأولى، حين رجعت إلى البيت، وبدأت في قراءة صفحاته. وما زلت، حتى يومنا هذا، أعيد قراءته من حين لآخر، وأحس بنفس الدهشة والمتعة التي اعترتني لدى قراءته للمرة الأولى. كان كتابًا غير عادي، وكان المرحوم خليفة الفاخري كاتبًا من طراز مختلف عن غيره من الكتّاب الذين قرأت لهم؛ حيث نقلني، بمتعة وجمال، إلى ضفاف جديدة، طازجة، ومثيرة، ومغرية، وساحرة على مستوى رهافة الخيال، وجماليات اللغة والصورة.

"موسم الحكايات " الصادر عن دار جيل ورسالة للنشر العام 1974 للكاتب المبدع المرحوم خليفة الفاخري، من وجهة نظري، كتاب مهم يؤرخ لمحطة لافتة، إبداعيًا، في تطور مسيرة جماليات السرد الإبداعي الليبي بقدرته على الغوص إبداعيًا في نبض وخفقان واقعنا المحلي الليبي بإشكالاته وطموحاته في تلك الفترة الزمنية.

تذكرت كتاب المرحوم الفاخري هذه الأيام وأنا أقرأ بنهم ما خطته أقلام الكتاب والمثقفين والسياسيين الليبيين الذين ذاقوا تجربة السجن المرة. ولكم تمنيت لو أن يد القدر منحت الفاخري مزيدًا من الوقت لكي يعيش معنا في زمن جديد، ولكي يقرأ معنا، بنفس اللهفة التي قرأنا بها حكاياته، حكايات جديدة، من نوع آخر، ظهرت علينا، فجأة، عقب سقوط المستبد وانهيار نظامه، عرفنا وذقنا من خلالها معنى مرارة محنة وطن ظل طيلة سنين طويلة محرومًا من ممارسة إنسانيته.

ما عنيت بموسم حكايات جديدة هو الإصدارات الجديدة التي ظهرت خلال السنتين الأخيرتين وتتعرض لسرد تفاصيل تجارب شخصية قاسى أصحابها معاناة السجن والعذاب والحرمان، قدمها لنا مثقفون وسياسيون ليبيون بتفاصيل مرعبة تنفذ إلى أعماق السجون لكي تكشف لنا قساوة العذاب والمعاناة في دهاليز تلك الفترة الموغلة في التوحش والقتل.

كان القاص المبدع عمر أبو القاسم الككلي أول المسارعين بنشر كتابه "سجينات"، وتلاه الشاعر والحقوقي جمعة عتيّقة بكتابه "ذكريات السجن والغربة" ثم جاء كتاب الشاعر والكاتب عبدالفتاح البشتي "المحنة الملحمة.. 15 سنة في سجون القذافي"، وبعده قرأنا كتاب شقيقه الناشط السياسـي عبدالعظيم البشتي "قساوة القيد صلابة الروح"، وتلاه الشاعر المرحوم السنوسي حبيب بكتابه "أتذكر". وهناك أيضًا ما نشره الشاعر الشاب صلاح الغزال على صفحات الإنترنت من مذكرات عن فترة سجنه لم تنشر بعد في كتاب لكنّها، جميعًا وبتفاوت في التجربة وإمكانات الســرد، تشترك في تقديم صورة لعالم مخيف "الداخل إليه مفقود والخارج منه مولود". كان الليبيون سواء في الداخل أو في منافي الخارج يسمعون عن أهواله وتقشعر جلود أبدانهم رعبًا منه لمجرد ذكره؛ إلا أن ما صدر من روايات وذكريات حتى الآن عن السجن السياسي في ليبيا خلال حكم المقبور بدأ في تقديم صورة حقيقية من لحم ودم وعذاب ومعاناة ونضال وصبر طويل ومرير للناس الذين عاشوا في دهاليز وأروقة تلك السجون.

بدأت هذه الإصدارات الأخيرة تأتي على شكل قطع صغيرة من صورة كبيرة مفككة وكل كتاب جديد صدر بمثابة قطعة كانت مفقودة في تلك الصورة التي نطمح إلى أن نتمكن جميعًا من إعادة تركيبها كاملة متى تمكن أكبر عدد من السجناء السابقين من كتابة ذكرياتهم ونشرها لكي نتمكن جميعًا من النظر إليها وقراءة تفاصيلها المرة بإمعان لكي نتعلم ألا نكرر ما كلفنا وكلف بلادنا ثمنًا باهظًا ليس من السهولة نسيانه أو تجاهله. وأذكر أنه خلال حديث هاتفي جمعني وصديقي الأستاذ عبدالرحمن شلقم خلال شهر مايو الماضي تعرضنا خلاله، كالعادة، لقضايا كثيرة ومن ضمنها ضرورة توثيق تجربة السجن السياسي في حقبة القذافي، وأذكر أن الأستاذ عبدالرحمن قال لي إن أهمية صدور تجارب السجن موثقة في كتب تعود لأنها ستكون بمثابة خريطة ضمير للمستقبل.

من هنا تنبع أهمية الكتابة عن السجن السياسي وأهمية ما قدمه لنا الككلي وعتيّقة وحبيب وعبدالعظيم وعبدالفتاح البشتي على أمل أن يقتدي بهم غيرهم مستقبلاً لكي تتضح الصورة الكاملة للواقع الذي كنا نعيشه وكذلك أن تعرف الأجيال القادمة الخط البياني المتصاعد لحجم التضحيات التي قدمها شباب ورجال ونساء من مختلف قطاعات الشعب الليبي في مقاومة الديكتاتورية وسعيهم الدؤوب للظفر بالحرية والعيش في مجتمع ديمقراطي يتسع لجميع أبنائه باختلافاتهم.