Atwasat

ثورة فبراير وفيكتور هوجو عدو الدولة

سالم العوكلي الأربعاء 31 أغسطس 2022, 02:47 مساء
سالم العوكلي

منذ قيام الثورة الفرنسية الشهيرة، أو ما تُسمى ثورة الجياع وتحطيم سجن الباستيل، مرت فرنسا بحقب مختلفة بل متناقضة على حد كبير، من فترة طغيان الثوار أنفسهم إلى عودة الملكية أكثر من مرة، ثم عودة الدكتاتورية في شخص القائد العسكري العائد من المنفى نابليون بونابرت، وكان آخر سلالة الملوك شارل العاشر الذي حكم من 1830 إلى 1848.

والشهير بإصدار مراسيم سان كلود الأربعة التي ألغى بموجبها حرية الصحافة، وخفّض عدد الناخبين بنسبة 75%، وحل مجلس النواب، ما سبب رد فعل قوياً في الشارع وبين النخب، ومن ثم انفجار ثورة «الثلاثة المجيدة» بين 26 و29 من العام 1830 والتي أفضت بالملك شارل إلى التخلي عن العرش والفرار إلى المملكة المتحدة، فتولى فيليب الأول السلطة وأطلق على حكمه ملكية يوليو.

وجلس لويس فيليب الملقب بالملك البرجوازي على أعلى هرم السلطة في دولة وصِفت بأنها ليبرالية معتدلة عارضتها بشدة أطياف سياسية من أقصى اليمين وأقصى اليسار، الجمهوريون والاشتراكيون والمتطرفون الملكيون. كان رجل أعمال محترفاً، وأصبح من أغنى الرجال في فرنسا مروجاً فكرته عن نفسه كبرجوازي صغير.

وشاناً هجومه على الأعمال التجارية الكبرى (البرجوازية) خصوصاً المصانع وعمالها، وزاد دعمه القوي للمصارف والمصرفيين، واستقطب بهذا الانحياز دعماً كبيراً من أوليجارشات المال أو من كانوا يسمون «الأرستقراطيون الماديون» الذين حظوا بتشجيعه، مثل المصرفيين.

كباراً وصغاراً، وأقطاب سوق الأسهم، ومُلاك الأراضي ومناجم الحديد، وبارونات السكك الحديدية، وأدى هذا الانحياز المعلن إلى احتقان لدى أصحاب المصانع الذين أصبحوا لا يملكون سوى الأرض المقامة عليها مصانعهم، وحشدوا قطاعاً كبيراً من الطبقة الوسطى والطبقة العاملة في معارضة سياسة لويس فيليب في البرلمان، ما أدى في النهاية إلى إصدار مراسيم تمنع قطاعاً واسعاً من الطبقة العاملة والطبقة الوسطى من حق التصويت للسيطرة على البرلمان من قبل مؤيدي فيليب.

وبحلول العام 1848 بلغت نسبة من يحق لهم التصويت من تعداد السكان 1%، وكان التصويت حكراً على ملاك الأراضي أو شرائح من يسمون الأرستقراطيون الماديون، وأدت هذه الإجراءات إلى احتقان واسع بين النخب والطبقة الوسطى وتطورت حركة مطالبة بالإصلاح، وتوسيع دائرة الحق الانتخابي.

وأقامت شرائح الإصلاح بمختلف توجهاتها (مآدب) كانت تُشرب فيها الأنخاب في صحة «الجمهورية الفرنسية» وترديد شعارها القديم (حرية، مساواة، أخوّة)، لكن فيليب المسيطر على مفاصل الدولة أشاح عن كل هذه المطالب بالإصلاح، واستمر الاحتقان في التوسع داخل العديد من مكونات الشعب.

وبعد أن فقد العمال وظائفهم وارتفعت أسعار الخبز وتفشى الفساد، ثار الفرنسيون من جديد وقامت ثورة العام 1848 التي تسمى (ثورة فبراير المجيدة) وأطاحوا بنظام فيليب القمعي، وشرعت النخب الثائرة بدعم واسع من قطاع شعبي في تأسيس الجمهورية الفرنسية الثانية، غير أن الثورة انحرفت عن أهدافها فعمت الفوضى والاضطرابات والصدامات العنيفة باريس، وفي يونيو من العام 1848 بدأ سكان باريس عصياناً شاملاً عرف في ما بعد بانتفاضة يونيو، تخلله تمرد دموي قام به العمال احتجاجاً على تفشي الفكر المحافظ بدل القيم الجمهورية، وبعد استلام قائد الجيش لسلطة لفترة، انتُخِب نابليون رئيساً للجمهورية الثانية بدعم كبير من الفلاحين.

وبدعم أيضاً من بعض النخب المثقفة وعلى رأسها لامارتين وهوجو، غير أنه بمجرد أن تمكن من السلطة انحرف هو أيضاً عن المحتوى الجمهوري للدولة، وقام بإجراءات تعسفية من أجل السيطرة التامة على الدولة، فحل الجمعية الوطنية الدستورية وحل البرلمان، وأقر دستوراً جديداً وفق مبدأ تمثيل نفسه.

وشكّل ميليشياته الخاصة لقمع واعتقال المعارضين، ورغم ذلك ظل يتمتع أداؤه الشعبوي بشعبية كبيرة بين الفرنسيين الذين كفروا بممثليهم في مجلس النواب، وبالقيم الجمهورية التي أفضت بهم إلى التقاتل في صراع الأحزاب وإلى الجوع وعدم الاستقرار، واستمر حكم نابليون المستبد حتى العام 1870 كآخر ملك فرنسي فعلي.

هذه أحداث مفصلية في تحولات التغيير الفرنسي الذي بدأ مع الثورة الفرنسية قبل ستين عاماً، لكن ربما، من حسن الحظ، أن تابعت الأيام الماضية مسلسلاً بإنتاج ضخم عن أحداث ثورة فبراير الفرنسية وما أعقبها من اضطرابات وبداية حكم دكتاتوري، واسم المسلسل (فيكتور هوجو: عدو الدولة) بُث في قناة (العربي 2) المميزة، ببرامجها المهمة ومسلسلاتها وأفلامها المختارة بعناية، ولأن الدراما تستعين في الأساس بالسِّير الذاتية لأشخاص فاعلين، تركز على التفاصيل التي يهملها السرد التاريخي التقليدي، ورافقتُ هذا المسلسل بمذكرة صغيرة أدون فيها بعض الملاحظات.

وكان انتباهي منصباً على دور المثقفين والمبدعين في مثل هذه الأحداث السياسية الاجتماعية الكبرى، وفي الثورات خصوصاً، وما يعتريهم من ارتباكات إلى حد اتخاذ المواقف المتناقضة التي يفرضها عليهم زخم الحدث وتقلباته السريعة، ومِثل هوجو سيكتشفون الفارق الكبير بين أحلامهم التي كبرت معهم وبين ضغط الواقع وكوابيسه، أو الفارق بين نشوة تحكمهم في أحداث رواياتهم ومصائر شخوصهم، وبين ما يحدث على الأرض ويخرج عن سيطرتهم وعن حجم مخيلتهم.

كان هوجو الملكي ولامارتين الجمهوري في قلب ثورة فبراير الفرنسية، ورغم الاختلاف ظل التحالف بينهما قائماً وفق رؤاهما المشتركة للمستقبل، إلى أن خرجت الأمور عن سيطرتهما وحتى عن قدرتهما على الحوار معا. ترشح الاثنان للانتخابات النيابية وفازا بمقعدين في البرلمان الفرنسي عن باريس، لكن تركيزي سيكون على هوجو الذي توقف طيلة هذه السنوات عن إكمال روايته (البؤساء) رغم إلحاح صديقته وسكرتيرته جولييت على التفرغ للكتابة.

ولم يتم الرواية إلا بعد فراره إلى منفاه في بلجيكا حين اشتد قمع نابليون للمعارضين والكُتّاب والصحافة، لتكتظ السجون بالمعارضين بمن فيهم (شارل) ابن فيكتور هوجو المحرر في جريدة الحدث، الذي قال لأبيه في السجن: نابليون سيسحقنا جميعا، إنه يتمتع بروح نيرون وكاليجولا.

كان هوجو دائم الحديث عن العدالة الاجتماعية، والقضاء على الفقر في خطاباته الساخنة تحت قبة البرلمان التي كانت تنشر تباعاً في جريدة الحدث التي كان يرعاها، قائلاً لا يمكن لسلطة أن تبني نفسها على نظام يتعامل مع الشعب بالصدقات. وكانت خطاباته التي تراوح بين الأدب والسياسة محط سخرية الكثير من النواب من تيارات مختلفة.

ويصفونه وسط موجة من الضحك بالرومانسي الحالم الذي يسعى لإسعاد الأرواح، فيقول لهم: لو كنتم تعيرون الاهتمام لأرواحكم أكثر من مَحافظِكم لأصبحتْ فرنسا في أحسن حال.

عمل نابليون على تصفية معارضيه والنخب المشاكسة، وقرَّب اليسوعيين منه لضرب اليسار الاشتراكي المزعج، واستبدل كل رجال الدولة العميقة بمريديه، وصفّى الجمهوريين واليساريين من الجيش والمؤسسات المدنية، وكان يجهز نفسه لاستعادة القبة الإمبراطورية، وعيّن يسوعياً راديكالياً وزيراً للتعليم، وهاجمه هوجو في خطاب برلماني ساخن نُشر في عديد الصحف، معبراً عن خطر تدخل الكنيسة في التعليم، وحين هاجمه اليسوعيون داخل البرلمان قال لهم: بفضلكم أوقفت إسبانيا عصر الفنون وبدأت محاكم التفتيش.

تنقل هوجو في ذروة ارتباكه بين التيارات المتقاطعة في فرنسا، من اليمين المتطرف إلى اليسار، ومن ملكي تحول إلى حزب النظام الجمهوري، ثم التحق بحزب الجبل الاشتراكي، وحين جلس في المقعد بجانب زعيم الاشتراكيين في البرلمان، تهللت أسارير الزعيم وقال له: هذا هو مكانك الطبيعي. وأوهم حديثه الدائم عن الفقر والفقراء الكثيرين بأنه اشتراكي، لكن هوجو ظل في جميع تنقلاته التكتيكية مخلصاً للفنان والشاعر في داخله، ولم يفهمه أحد من رفاق عمله السياسي، الذين لم يتوقفوا عن الهزء بأحلامه.

ولكن في النهاية وبعد عقدين ما تحقق فعلاً في فرنسا هي أحلام هوجو، فبعد أن أدرك أن نابليون الثالث قد قام فعلاً بانقلابه على النظام الجمهوري وبدأ يذهب بالدولة نحو الدكتاتورية نزل هوجو لأول مرة إلى الشارع حين أعلن العصيان والمقاومة المسلحة، وتعرض لمحاولة اغتيال لم تنقذه منها إلا عشيقته جولييت درويه التي مهدت له طريق الهروب خارج فرنسا، وبين العامين 1855 و1870 أكمل روايته (البؤساء)، وبعد سقوط الدكتاتورية أثناء حكم نابليون الثالث رجع هوجو من منفاه إلى فرنسا، فقوبل بحشد شعبي هائل استقبله في باريس.

وتحول إلى رمز حر للمثل الجمهورية التي تمزج بين روح الفن والسياسة، وهي المُثل التي استلهمها بعد قرن الزعيم ديغول، المقرب جداً من كتابات هوجو، والذي بدأ حياته قارئاً نهماً للتاريخ والفلسفة والأدب، وكتب الشعر في بداية حياته، ولكنه دخل الكلية العسكرية تنفيذاً لرغبة والده بعد أن توقع الكثيرون أنه سيكون كاتباً، ليقود المقاومة الفرنسية ضد الاحتلال النازي، ويتحول بعد تحرير فرنسا إلى ما يسميه الفرنسيون، الأب الروحي للجمهورية الفرنسية الخامسة، ولحسن الحظ أيضاً.

أتابع هذه الفترة المسلسل المميز (ديغول) على قناة العربي 2، الذي يسرد بدوره تفاصيل حياة هذا الزعيم وكل ما يحيط به؛ حياته العسكرية والمدنية وعائلته وأصدقائه وتلك التفاصيل الصغيرة التي خلقت أسطورته في عيون الفرنسيين.

تحقيق الحلم بالحرية ودسترة القيم الإنسانية العليا وإدماجها في تكوين الثقافة السياسية والاجتماعية ليس أمراً سهلاً. قد يستغرق عقوداً أو حتى قروناً، لكن على الأجيال أن تتوارث مصادر الإلهام، وأن لا تجعل الحلم يموت أو ييأس.